قبل استقالة وزراء المعارضة من حكومة رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري، مما أدّى إلى انهيارها في 12 يناير الماضي، كانت الحكومة اللبنانية في نقاش حول إصلاح القطاع الإعلامي. فقد أدّى تسريح أعداد كبيرة من موظّفي القطاع في عام 2009 وما أعقبها من سحب للأموال النفطية الخليجية من صناعة الإعلام اللبنانية، إلى كشف الافتقار إلى إطار لتنظيم العمل الإعلامي والحقوق القانونية للعاملين في القطاع. كما أن البيئة الإعلامية الرقمية الجديدة فرضت اعتماد قوانين وتنظيمات جديدة للإعلام والاتصالات السلكية واللاسلكية. وقد وُضعت هذه المسألة على الرف بانتظار أن يتم تشكيل حكومة جديدة، لكنها تبقى ذات أهمّية كبرى، إذ إن النزاع الممتد في لبنان يدور عبر وسائل الإعلام، ويتواصل التعبير عن المخاوف من الخرق الإسرائيلي للبنية التحتية السلكية واللاسلكية. وقد نشرت مؤسسة "كارنيجي" للسلام الدولي تقريراً في أواخر يناير الماضي حول إصلاح أجهزة الإعلام اللبنانية أعده الخبير الإعلامي مروان كريدي. دفع تفكيك السُلطات اللبنانية لشبكات تجسّس إسرائيلية خرقت البنية التحتية للاتصالات السلكية واللاسلكية في البلاد، إلى جانب التشنّجات المحمومة حول تنصّت الأجهزة الأمنية اللبنانية على الخطوط الأرضية، إلى التركيز على موضوع الاتصالات الرقمية على الصعيدَين السياسي والقانوني عام 2010. وازداد النقاش حدّة بعد توقيف أربعة لبنانيين بسبب انتقادهم الرئيس ميشال سليمان على موقع "فيسبوك" في يونيو-يوليو 2010 وقيام الاستخبارات العسكرية باستجواب مدوِّن محلي على خلفية انتقاده للقوّات المسلّحة. كما أدّى شن الحملات الانتخابية السياسية عبر الإنترنت والشبكات الاجتماعية والمخاوف من تداعيات هجرة الإعلام اللبناني نحو الفضاء الرقمي، إلى إدراج وسائل الإعلام الاجتماعية والمدوَّنات والمنشورات الإلكترونية الأخرى في مشاريع قوانين قيد النقاش. كان لبنان أوّل بلد عربي ينظِّم قطاع البث الخاص من خلال قانون المرئي والمسموع عام 1994. بيد أن تطبيق القانون في عام 1996 أثار مخاوف سياسية بشأن توزيعه للمحطات الإذاعية والقنوات التلفزيونية على أساس مذهبي، والصلاحيات المفرطة التي يمنحها لوزير الإعلام، ناهيك عن أن أحكام القانون تتجاهل الظروف الاقتصادية للبث ولا تأخذ في الاعتبار السوق الإعلانية اللبنانية شديدة التقلّب. في عام 2002، أُغلِق تلفزيون المر من خلال تفسير مشبوه لقانون الانتخابات، وليس قانون الإعلام، مما دفع بوزير الإعلام آنذاك غازي العريضي إلى التصريح بأنه لم يعلم بأمر الإقفال إلا بعد حدوثه. وهكذا ظهرت تناقضات فادحة في قوانين الإعلام اللبنانية، ومنذ ذلك الوقت يطالب الصحفيُّون ومالكو وسائل الإعلام وبعض السياسيين بقانون جديد للإعلام. هناك حالياً إجماع متزايد على أن الأطر التنظيمية القائمة هي، بحسب تعبير وزير الإعلام طارق متري في نوفمبر 2010، "متفرّقة ومفتقرة إلى الانسجام" و"لا تخلو من التناقض في ما بينها" و"قديمة وغير مواكبة للتطوّرات التي طرأت على الإعلام". وبالفعل، نجد الأحكام التي تنظّم الإعلام في لبنان في قانون العقوبات وقانون الانتخابات وقانون المطبوعات وقانون القضاء العسكري وقانون المرئي والمسموع، مما يولّد كابوساً لوجستياً من الاختصاصات المتداخلة. خلال العام المنصرم، أطلق متري سلسلة من المشاورات مع مالكي وسائل إعلام وصحفيين ومجموعات ناشطة وسياسيين من أجل تحديد أولويات الإصلاح في قطاع الإعلام ووضع معايير واسعة لإطار قانوني شامل جديد. وأنشأت وزارة الإعلام أيضاً عنواناً عبر البريد الإلكتروني لتلقّي الاقتراحات والتعليقات من الجمهور. وكانت الغاية إطلاق نقاش عام وواسع النطاق حول وضع الإعلام اللبناني، ومشاكله البنيوية، وظروف العاملين في القطاع. وقال متري للصحفيين إن الهدف في نهاية المطاف هو وضع قانون إعلام شامل يُنظّم الملكية الإعلامية، والممارسات والحقوق في المهنة، والمحتوى الإعلامي، والإعلام الرقمي الجديد. وجاء النقاش الذي كان يدور قبل استقالة وزراء المعارضة، في أعقاب محاولة فاشلة لوضع قانون جديد للإعلام. ففي يونيو 2010، نجحت مجموعات أهلية عدّة بينها مهارات في إرجاء التصويت في مجلس النواب اللبناني على مشروع "قانون تكنولوجية المعلومات الجديد" في لبنان الذي يُنظّم المعاملات الإلكترونية عبر الإنترنت. كان من شأن مشروع القانون أن يفرض قيوداً شديدة على حقوق المواطنين والشركات المدنية وكذلك حقهم في الخصوصية، عبر منح الحكومة صلاحيات واسعة للمراقبة، وأن يقضي على حُرية الصحافة في الإعلام الرقمي. ركّزت البنود الثمانية والستّون الأولى في مشروع القانون على تنظيم المعاملات الإلكترونية بين المؤسّسات المالية. بيد أن بنوداً أخرى نصَّت على إنشاء هيئة تملك صلاحيات واسعة للمراقبة وقدرة على الولوج إلى مختلف أنواع المعلومات بما في ذلك الحسابات الخاصة عبر البريد الإلكتروني، بمجرّد تلقّيها شكوى ضد فرد أو شركة. حتى إن مشروع القانون أتاح للهيئة أن تتحوّل هي نفسها إلى مقدِّمة للخدمات الإلكترونية، مما يحدث تضارباً فاضحاً في المصالح. المفارقة هي أن المجموعات الناشطة نجحت في إرجاء التصويت على مشروع القانون عن طريق "تويتر" و"فيسبوك" والمدوَّنات الإلكترونية. وفي نوفمبر 2010، عقد النائب غسان مخيبر مؤتمراً صحفياً أعلن فيه أنه سيطرح مشروع قانون جديد للإعلام على النقاش في مجلس النواب، وهو الأكثر جدّية بين حفنة من مشاريع القوانين التي يدرسها النوّاب اللبنانيون. اعتبر مشروع القانون الذي وضعه مخيبر أن قانون المطبوعات اللبناني ينتهك الدستور ومواثيق الأممالمتحدة المختلفة، وطرح علامة استفهام حول التمييز الغريب بين الإعلام "السياسي" و"غير السياسي". ويتيح المشروع أيضاً للمواطنين غير اللبنانيين امتلاك وسائل إعلام في لبنان إذ يعتبر النائب مخيبر أنه من شأن ذلك أن يعزّز الشفافية في الملكية والاستثمارات الإعلامية. المشهد الإعلامي الحالي في لبنان هو بؤرة للزبائنية السياسية ولعبة النفوذ الداخلية والأجنبية. هذا ويطرح تغيير تكنولوجيات التسليم والتوزيع تحدّياً أمام تنظيم الإعلام. فالأطر الحالية غير مناسبة للتعامل مع الوقائع الميدانية للإعلام اللبناني والعربي: المحطات الفضائية المشفَّرة، وتوزيع محطات الكابل، وفي شكل خاص المدوَّنات وشبكات الإعلام الاجتماعي العصيّة على السيطرة التي تحاول الحكومات العربية تكميم أفواهها منذ بضع سنوات، مع درجات مختلفة من النجاح. تضاف هذه المسائل الجديدة التي تطرحها البيئة الإعلامية الرقمية إلى المخاوف المستمرّة في لبنان في شأن العدد المحدّد من التراخيص الممنوحة للصحف وترخيص الدولة لوسائل الإعلام، من جملة أمور أخرى، هذا فضلاً عن المسألة الأوسع نطاقاً المتمثّلة في إرساء توازن بين الاستقلالية الذاتية الصحفية والحرية التحريرية، من جهة، والمخاوف من الاستقطاب السياسي والتحريض المذهبي من جهة أخرى – وتبرز هذه الأمور إلى الواجهة في شكل خاص على ضوء المواجهة بين الكتلتين السياسيتين الأساسيتين في البلاد حول المحكمة الدولية الخاصة بلبنان المكلَّفة بمحاكمة قتلة رفيق الحريري وشخصيات عامة أخرى. في الأسابيع والأشهر المقبلة، سوف يستمر المعنيّون بإصلاح الإعلام اللبناني في خوض نقاشات واسعة النطاق حول طبيعة الصحافة والعمل الإعلامي، وكذلك حول التغيير الذي تُحدثه البيئة الإعلامية الرقمية في العلاقة بين العاملين في القطاع الإعلامي والسلطة السياسية، ومن شأن هذه النقاشات أن تتوصّل إلى مسوّدة قانون حول أخلاقيات مهنة الإعلام. وقدرتهم على وقف مشروع القانون الأخير خير دليل على أنه في لبنان الآن قوى راسخة سوف تتمكّن من منع إقرار قانون جديد تفرضه الحكومة وسوف تؤدّي دوراً بنّاء في إرساء قوانين وتنظيمات إعلامية جديدة – شريطة أن يتمكّن الفرقاء الأساسيون من التوصّل إلى اتفاق وتشكيل حكومة جديدة.