بعد صراع عقود بين جناحي العقل والنقل في تشكيل عقل الطالب السعودي، أعاد وزير التعليم الدكتور العيسى، الأولَ إلى الواجهة بعد اكتساح طويل للثاني، على أمل تطوير مهارات التفكير العليا لدى الطلاب، ليصبحوا قادرين على مواكبة التطور والقفزة التي تعيشها المملكة في كثير من الجوانب الاقتصادية والاجتماعية، للوصول إلى مصاف الدول المتقدمة، المنتجة فكرا وصناعة، ولا يمكن لنا الانتقال من النمط الاستهلاكي إلى النمط المنتج، إلا بتغيير نمط التفكير من السلبية المستهلكة إلى الإيجابية المنتجة. فعلى مدى عقود في عصرنا الحالي، وقرون من التاريخ العربي والإسلامي شكّلت الفلسفة ارتيابا حادا لدى شريحة كبيرة من المجتمع العربي عموما والسعودي خصوصا، وتم ربطها بالإلحاد والتلاعب واللاجدوى، فكان مصيرها النبذ والتهميش، ومصير من يحاول استخدام أدواتها وصمة الفسق والانحراف الفكري. في حين لم يدرك المعارضون أن نقدهم الفلسفة هو أيضا فلسفة أخرى. فالعقل الجمعي الذي تبنيناه ونمنا تحت ظله قرونا طويلة، واستمر في إملاء المبادئ والعادات والتقاليد التي لا يملك الفرد اختيارها وتجريبها، ألغى العقل الفردي، وجعل قدراته على الاستقراء والتحليل والتقويم سطحية هشّة. البعض يستشهد ببعض دول محيطنا العربي، والتي سبقتنا في تدريس الفلسفة أو بعض جزئياتها منذ عقود، ولم تقطف ثمارا لها. والحقيقة، إن السبب في ذلك كون تعليمها بقي ضمن مسار التلقين والحفظ البدائية، التي تدرس بها باقي العلوم، في الوقت الذي لا يمكن للفلسفة النمو إلا في بيئة حرة، وهذا ما يجب تداركه، خاصة أن مفرداتها ستسند إلى معلمي مادة المهارات الحياتية كجزء من المادة، فيجب تأهيلهم وتدريبهم للتعامل مع المادة بالشكل الذي يجعل تدريسها منتجا محققا للأهداف التي وضعت لها. أتمنى ألا تتحول دراسة مهارات التفكير والفلسفة إلى حصة تاريخ، ماذا تعني كلمة فلسفة؟ متى ولد أرسطو؟ ماذا تعرف عن أفلاطون؟ ضع علامة صح أمام …….، بل يجب أن تنتقل إلى الجانب العملي منها، بطرح التساؤلات وتقييم الإجابات المحتملة ومقارنتها، للحصول على تفسيرات من صنع الطلاب أنفسهم، يربطها المعلم المتمكن بحلول وتفاسير فلاسفة سابقين ليضع الطالب إلى جانبهم. قد يظن بعض المتفائلين أن تدريس الفلسفة ومهارات التفكير سيشفي المجتمع من كثير من العلل العقلية، وأنه سيحرر الفكر من سيطرة العقل الجمعي، ويشفي العواطف الملوثة، وينقي الأخلاق من علل الحقد والكراهية والتعصب. ويؤسفني أن أقول، إن النضج والسمو الفكري ليس نتيجة دراسة الفلسفة، لكن الاهتمام بالفلسفة هو طريق تسلكه العقول التي تطرح الأسئلة، وتبحث عن الإجابات بموضوعية، وبالتحديد الأسئلة التي لم يجب عنها العلم، فمتى ما وجدت إجابة علمية توقفت الفلسفة، وهذا من فضائل الفلسفة أنها لا تكابر، فهي تطرح الأسئلة عن المجهول غير المثبت علميا، لتضع إجاباتها المحتملة، وتتيح للعلم البحث والتجريب حتى يجد إجابة. عندها تنسحب لتطرح أسئلة حول جوانب مجهولة أخرى، وهكذا تستمر دائرة النور في اكتساح الظلام.