ناصر العمري رحل رائد الحداثة الموسيقية في المملكة، والذي صنع لنا مع سعيد فياض «صورة» السعودية التي تغوينا حين اقتفى أثر «إيلي شويري» وهو يحول لبنان كلمات وأغنية مكتوبة على الشمس ألما بتغيب، ولحنا يحتل أفئدة أبناء الشام عموما، ليأتي سراج عمر حاملا بلاده على كف الوتر مهديا الوجدان «بلادي بلادي منار الهدى»، لنجد فيها شيئا منا، وليلهب به وجدان أبناء الوطن المغتربين. من تلك اللحظات استمد سراج عمر قوة لحنه الذي كان بالنسبة لجيلي من بدهيات لغتنا وخيالاتنا وحكاياتنا وعواطفنا وذاكراتنا، حين شحننا بجملته الموسيقية القادرة على اختراق أذن الطفولة ووجدان الشباب ووقار الكبار، فاحتلّنا سلميا لمدة تجاوزت ال30 عاما من معاقرة فنه. بالأمس، رحل الأنيق الذي كانت مهمته بعث الحنين في أفئدتنا، عبر عبقريات الغناء «ما تقول لنا صاحب، وأغراب، ومقادير، ومرتني الدنيا، وليل البعاد»، وقائمة طويلة جدا من الروائع التي اختلطت بأرواحنا، حينها لم ننتبه أن سراج «يصنع» شيئا جديدا وحديثا ومغايرا ومختلفا فينا، ونحن نصيخ السمع لموسيقاه في كل مرة يدوزن فيها جملة موسيقية. يقينا، إن جيلي ومن سبقه محظوظ بقدر كاف، كونه لمح سراج عمر وقضى جزءا من عمره وهو يحظى بتلك الموسيقى الرومانسية. أدركنا ما صنعه دون عناء البحث حين كنا إزاء اختراعاته اللحنية. لاحقا أدركنا أكثر أن روح تجربته ما كانت سوى إغواء موسيقى حديث، شكلت ذاكرة جيل ووجدان شعب. نحن الآن نتعايش مع حقيقة «سراج» وهو يغادرنا، لكننا منذ حينٍ نفكر فيه ونتذكره ونحنّ إليه، وصرنا «نفهم» موسيقاه أكثر ونسمعه في كل الأوقات، بوصفه آخر ما تبقى من قلاع الفن الأنيق، وأضلاع الحداثة الموسيقية التي شكل مع طلال وبدر مثلثها. سراج عمر الهادئ كان عظيما، فقد صنع أسطورته في زمن كان الفن خطيئة، ومقارفته سوءة، ولكنه الآن بات مستحيلا ومفارقا، وها نحن اليوم لا نبحث سوى عن «بلادي بلادي منار الهدى» ورفيقاتها ضمن مشاريعنا الشخصية التي نحاول بها أن ننقذ الفن فينا. بتوقفه خسرنا الأغنية وخسرنا سحر الجملة الموسيقية التي تشبه الحقول والصباحات وبراءة الطفولة، وخسرنا فنانا كان يرى كل شيء صالحا لأن يكون موسيقى وجملة لحنية، لأنه يناجيها بحب وصدق ويقينية وشغف وإيمان على طريقة «خيميائي باولو كويلو»، لذلك لا نستغرب حكاية «شعاع بدر بن عبدالمحسن» التي راهن الجميع حتى البدر نفسه أنه يستحيل تلحينها، وأنها لا تصلح أن تكون أغنية، وحده سراج عمر الذي رأى في كل شيء مشروع معزوفة، فتخلقت «شعاع» في وجدانه لحنا ينبعث من إحساس بالغبطة أثناء اكتشافه معاني كلمات البدر الذي كان يلاعب بها ابنه، ولأن تشبعه بالموسيقى كان حاضرا في لحظات مفعمة بالعواطف الصادقة، ودفق حنان الأبوة وتجليات الموسيقى، طوّر جملة لحنية متفردة بشكل أعطى هذا العمل خصوصية أسكنته الوجدان والذاكرة، يتعاظم الفقد فينا لأن نهر الموسيقى وجداوله تتوقف تباعا برحيل عمالقة الموسيقى: فيلمون وهبي، وأيلي شويري، والموجي، ووديع، والرحابنة، والسنباطي، وبليغ، وبقية جوقة الفن، ليلحق بهم الأنيق سراج، وبهذا الرحيل ندرك أنه ما عاد للأغنية من ظلال في الواقع سوى واقع مجرد، شديد الجفاف، شبه متصحر، فقير.. ينتج أغنيات ميتة لم تعد تشجينا. مات سراج، فانتبهنا مجددا كم صرنا بعيدين من ذاك الزمن الذي ننتسب إليه. رحل الأنيق الذي كنا نشعر إزاء أعماله وكأنها من بداهة سيولة الجداول واخضرار الأشجار وتفتح الأزهار بموسيقى تشبه مؤلفها الأنيق، لا فائض فيها ولا ثرثرة، موسيقى حداثوية بامتياز، استطاعت أن تصنع للسعودية مكانا، وأن تحجز لها مساحة أنيقة في الشاشات وعبر الأثير، على امتداد الوطن العربي، موسيقى هادئة هادرة لا تكف عن الجريان بعذوبة، ولا تتوقف عن التحليق بنا بأناقة ودون افتعال إلى سماوات من المتعة والهدوء والدهشة والخيالات، صنعها فنان حقيقي كان يذهب إلى أقصى ما يمكن الوصول إليه، بحثا عن طاقة الكلمة ومعناها الأدق وموطن لذتها، ليفض بكارة الصمت بجملة موسيقية سائغة اللذة، يأخذنا بها إلى تخوم الفن دون إجبار، وهناك يترك لنا خيار الاستماع من عدمه، لكن دون شعور نرتمي في نهر عذوبته. سراج كان على طريقة العظماء، منحازا لأسطورته الشخصية، مستلهما جنون «زوربا» الفنان الذي تخلص من إبهامه لأنه يخدش منحوتاته، لكن سراج جاء على نحو مغاير فلم يقطع أحد أصابعه، بل استنبت أصابع أخرى غير العشرة التي يملكها، كي يعزف لنا هذا الغناء الذي يأتي كخدر لذيذ نتعشق مقارفته كلما اجتاحنا الحنين.