لا يوجد من لا يعرف المقولة الشهيرة: «من قال لا أعلم فقد أفتى»، ومع ذلك لا تكاد تجد من قال لا أعلم حين لم يعلم. وحين يقر أحدهم بعدم علمه يعود ليستدرك بعدها، ليعلق لمجرد التعليق بمعلومات لا تمت بصلة إلى ما يتم النقاش حوله، بسبب أنه لا يريد أن يُعرف بأنه صمت، وبأنه لا يعلم. وهذا هو الإشكال الحقيقي، لأن النقاشات لدينا استعراضية وليست علمية، بل ولا تبحث في الغالب عن الفائدة أو الحقيقة، وأقرب ما تكون أنها مجرد تسلية غرضها تسهيل مرور الوقت، يسعى فيها المتناقشون إلى إحراج بعضهم للآخر، حتى يثبت أن أحدهم أجهل من الآخر بحجة أو دون حجة، ولم يعلموا أنهم بذلك وضعوا أنفسهم جميعا في زمرة القوم الجاهلين. حين يصر الشخص على إنكار عدم معرفته بأمر ما، فإنه يعطل لديه حاسة السمع، ويضعف لديه التركيز والاهتمام، فلا يسمع ولا ينصت، ليضع بذلك سدا منيعا من العناد والتعالي يعوق ويمنع معالجة المعلومات والمعرفة الجديدة. نقاشاتنا -أو بالأحرى مجادلاتنا مع بعضنا بعضا- هي أقرب ما تكون لمعركة كلامية لا بد فيها من منتصر وخاسر، والانتصار تحدده الحجة اللفظية البلاغية -التي ليست بالضرورة منطقية- ويحدده الأعلى منهم صوتا. وحين يتدخل المنطق كحجة فاصلة يخلق لدينا إشكالا آخر، وهي أن الفكرة -وإن بدت منطقية لصاحبها- فهي ليست بالضرورة صحيحة، لأن خلق الحجج وبناء المنطق يعتمد على معلومات وحقائق ربما لا تكون موجودة، أو ربما تكون مغلوطة، مما يؤدي إلى نتيجة خاطئة وغير مبررة. قال أحدهم فيما مضى، ما جادلني عالم إلا غلبته، وما جادلني جاهل إلا غلبني، وهذا يدل على أن النقاش مع الجاهل نوع من الجدل السقيم الذي يدور في حلقات فارغة بلا نتيجة واضحة ولا فائدة مستقاة، وذلك لأنه لا يقر بجهله، ويدافع عن جهله بحجج واهية قائمة على الصراخ، تتعدى في كثير من الأحيان حدود موضوع النقاش إلى ذات الشخص وهيئته ونسبه وسحنته ولونه، والسبب الرئيسي في هذا كله أنه لم يقل لا أعلم حين لم يعلم. المعرفة الجاهزة وعصر سرعة ووفرة المعلومات، خلقت آراء متناثرة في فضاء وسائل الاتصال الاجتماعي، تنتظر من يتلقفها ويتبناها بلا تعب ولا بناء وبلا فهم ووعي، هذا بدوره أدى إلى بناء قشور معرفية تُكسر وتتعرى أمام أقل محاولة للنقاش من شخص أكثر إلماما ومعرفة. أخيرا، لا بد لنا أن نعلم أن الجزء الأهم لحل أي مشكلة هو الإقرار بوجودها في المقام الأول، فبوابة المعرفة تفتح للمتواضعين، وتوصد بابها أمام كل متعال عليها.