يطلق الكاتب عبدالرحمن الطريري حكما قاطعا في كتابه «الجمهوريات السورية» الصادر عن دار مدارك، حين يعد سورية «أكبر كوارث هذا القرن»، متناولا أوضاعها منذ عام 2011 بين معارضة ظلت سلمية لأشهر عدة وبين نظام أراد الحل الأمني سبيلا وحيدا لإنهاء الأزمة. ويرى الطريري أن سورية هي الأرض التي جمعت كل القوى الإقليمية والدولية لتكون مؤثرة أو متأثرة بما يجري في سورية من التسليح وإرسال الميليشيات إلى الدعم السياسي والفيتو، وصولا إلى ملايين اللاجئين والجرحى والمفقودين. ويتساءل الطريري في كتابه «كيف سيعيش السوريون بعد هذه الأزمة، وكيف سيتعايشون، وهل ستبقى سورية موحدة أم ستكون جمهوريات سورية؟». توريث في نظام شمولي رغم أن بشار الأشد ابن لرئيس سورية حافظ الأسد، وقد يعد وريثا بالنتيجة لنظام شمولي، إلا أنه لم يكن مرشحا لوراثة أبيه، بل كان المرشح المُعد للحكم أخاه باسل. الذي قضى في حادث سيارة عام 1994. بعد رحيل باسل ورث بشار منصب رئيس الجمعية السورية للمعلوماتية، ونقل إليه الملف اللبناني الذي كان تحت إدارة عبدالحليم خدام، كما ترقى في الجيش حتى وصل رتبة عميد، وبرحيل والده كانت الأجواء مهيأة له لتولي الحكم، حيث كان الحكم في قبضة جنرالات علويين يديرون المشهد، مع قيادات من طوائف أخرى مثل وزير الدفاع السني مصطفى طلاس، كانوا كاملي الولاء لآل الأسد. وفي 11 يونيو 2000 رشح بشار لرئاسة الجمهورية، وفصل مجلس الشعب كرسي الرئاسة على قياسه، حيث عدل المادة 83 من الدستور والتي تنص على ألا يقل رئيس الجمهورية عن 40 عاما، ليصبح 34 سنة الحد الأدنى لعمر الرئيس. أقسم بشار اليمين الدستورية في 17 يوليو 2000، بعد حصوله على 97.29% من مجموع الأصوات، ونشر منذ خطابه الأول كثيرا من الأمل في أن سورية تتغير اجتماعيا وسياسيا واقتصاديا، وكان يذهب إلى المطاعم برفقة زوجته، لإشعار الشعب بحدوث التغيير حيث يتنقل دون رفقة أمنية.
محيط سورية العاصف رغم سلاسة انتقال الحكم من حافظ الأسد لنجله بشار الأسد، إلا أن الأجواء الدولية والإقليمية لم تكن مريحة للنظام البعثي في سورية، ولا كانت قناعة الغرب كبيرة بقدرة بشار على الإصلاح، حيث حفل عامه الأول في الحكم 2000 بانسحاب أحادي إسرائيلي من جنوبلبنان، قام به إيهود باراك في 25 مايو دون أي تنسيق مع لبنان، ورغم أن الانسحاب سبق تولي بشار سدة الحكم بأسابيع، إلا أنه شكل ضغطا بالنتيجة على حليفه حزب الله وشعار المقاومة الذي أبقى له حظوة امتلاك السلاح منفردا منذ اتفاق الطائف. مثل الانسحاب حرجا لحزب الله عبر طرح مسألة سلاحه خارج سلطة الدولة للنقاش بين الفرقاء اللبنانيين، وزاد هذا النقاش أكثر عام 2005 فيما سمي ثورة الأرز بعد انسحاب الجيش السوري من لبنان، على إثر الضغوط الدولية بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري، لكن الأمر الأكثر إحراجا لحزب الله والنظام السوري معا، هو طرح الفرقاء السياسيين مسألة ترسيم الحدود مع سورية، التي رفضها النظام السوري لأنها كانت ستفضي إلى أن المناطق المحتلة سورية، بالتالي على النظام السوري الدفاع عنها لا حزب لبناني. في العام التالي 2001 ولسخرية القدر في عيد ميلاد بشار الأسد تحديدا «11 سبتمبر»، حدث العمل الإرهابي الذي يعرفه الجميع في الولاياتالمتحدة، ومثل ضغوطا على المسلمين والعرب، وعلى أنظمة محددة، واجهتها الولاياتالمتحدة بعمل عسكري في أفغانستانوالعراق «الجار الشرقي لسورية»، وبضغوطات سياسية على دول عربية أخرى كمصر والسعودية وبدرجة أكبر سورية، التي كان يطيب لديك تشيني نائب الرئيس الأميركي تسميتها بالدولة المارقة. وقد دفعت الذهنية الأمنية للنظام السوري مع غزو العراق، بطريقة تحويل العراق لمستنقع للأميركان وحلفائهم، مما يعاظم الخسائر الأميركية وبالتالي يبعد شبح إسقاط النظام السوري بالقوة، بالطريقة التي تم بها إسقاط نظام صدام حسين، حيث تحولت سورية لمنصة تصدير الإرهابيين إلى العراق، وتقديم كل الدعم اللوجيستي لعمليات السيارات المفخخة التي كانت تستهدف الجنود الأميركان، وقد نجحت هذه الاستراتيجية خصوصا مع تزايد الخسائر الاقتصادية والبشرية لأميركا، سواء في أفغانستان أو في العراق. ولبنانيا كان اغتيال رئيس الوزراء رفيق الحريري في 14 فبراير 2005، اغتيالا لمشروع الدولة واغتيال لشخص له علاقات مع دول عربية كبرى على رأسها السعودية، ودول غربية عدة على رأسها فرنسا التي كان يرأسها صديقه جاك شيراك.
2011 شرارة الثورة وحرائق النظام «لا يوجد احتمال لانتشار الاحتجاجات إلى سورية، لأنه لا يسودها أي سخط على النظام الحاكم»، هذا كان التصريح الأول لبشار الأسد في الأول من فبراير 2011، بعد أن أطلق ناشطون على فيسبوك دعوة أسموها «يوم الغضب السوري». وفي 17 فبراير، أغلق سوق (الحريقة) في دمشق، وتجمهر التجار والأهالي في المناطق المحيطة بعد إهانة رجل أمن لابن أحد تجار السوق، ردد خلالها المتظاهرون لأول مرة «الشعب السوري ما بينذل»، استمرت حتى حضر وزير الداخلية في محاولة للتفاهم مع المحتشدين. وجه ناشطون الدعوة إلى «يوم غضب سوري» آخر في 15 مارس 2011، عبر صفحة على موقع فيسبوك، تزامنا مع حالة احتقان في درعا جنوب سورية، بعد اعتقال عدد من الأطفال المتأثرين بالربيع العربي، بكتابة شعارات مناهضة للنظام على جدران المدرسة. وفي 15 مارس، خرجت عدة مظاهرة ضمت العشرات من الجامع الأموي، فضت بالقوة، وتكرر الأمر ذاته في اليوم التالي، مقابل مبنى وزارة الداخلية في ساحة المرجة، وبعدها بأيام تحديدا الجمعة 18 مارس، خرجت مظاهرات صغيرة في مدن دمشق ودرعا وحمص وبانياس، واجهها الأمن في درعا بإطلاق النار، وبالتفريق والاعتقال في المناطق الأخرى، وطوال الأسبوع التالي، كانت درعا وقراها مسرحا لمظاهرات حاشدة واشتباكات مع الأمن، أوقعت خلال الأسبوع 100-150 قتيلا حسب المعارضة. انتفاضة درعا، دفعت في 25 مارس، والذي أطلق عليه شعار يوم «جمعة العزة» إلى توسع المظاهرات كمًّا وانتشارها، فتمددت إلى حماة واللاذقية، وأحياء جديدة في دمشق أشهرها كفرسوسة، أما أكثر منطقة شهدت مواجهات مع الأمن فهي (الصنمين) في درعا، حيث وقعت مجزرة الصنمين في محاولة الأمن منع سكان البلدة التوجه نحو درعا. في 31 مارس ألقى بشار الأسد خطابه الأول، وتحدث فيه عن إصلاحات واسعة يعتزم القيام بها، إلى جانب تشكيل حكومة جديدة بعد استقالة حكومة عطري، من الخطوات التي قام بها النظام، تجنيس آلاف الأكراد الذين حرموا من الجنسية في محافظة الحسكة، ورفع حالة الطوارئ المعمول بها منذ 1963 ميلادية، وإطلاق سراح المعتقلين على خلفية المظاهرات في 14 أبريل، ورغم هذه الخطوات، لم تختلف طريقة التعامل مع المظاهرات ذاتها، ففي جمعة 22 أبريل، سقط نحو 100 قتيل حسب المعارضة السورية؛ وكانت حمص قد شهدت في ساحة الساعة اعتصاما ضخما فرقته قوى الأمن في الليلة ذاتها، عرفت ب«مجزرة الساعة» يوم 18 أبريل. وبعد أسبوع، في 25 أبريل، دخلت قوات الجيش السوري للمرة الأولى مع حصار درعا، وتزامنا، اقتحمت قوات النظام دوما والمعضمية في ريف دمشق، ألحقها في 3 مايو ببانياس. وفي 9 مايو من العام نفسه، كان الجيش السوري قد دخل مرحلة جديدة تمثلت بحصار حمص ثالث المدن السورية ثم اجتياحها، وبعد ذلك، شنت أجهزة الأمن السورية حملة اعتقالات واسعة شملت دمشق وحلب وبانياس وحمص وريف إدلب وإدلب واللاذقية. ولم ينجح التصعيد العسكري من قبل النظام في وقف المظاهرات السلمية، بل إنه في 3 يونيو، شهدت ساحة العاصي في حماة، اعتصاما ضخما، انتهى بمقتل أكثر من 80 متظاهرا. وكان 4 يونيو يوم دخول الجيش إلى إدلب فحاصر جسر الشغور وتمركز في سهل الغاب وجبل الزاوية، كما اقتحم في 10 يونيو معرة النعمان. مع بداية يونيو 2011، أعلن المقدم حسين هرموش انشقاقه عن الجيش السوري، وأسس أول تنظيم عسكري للمنشقين هو ما أسماه «حركة الضباط الأحرار» للدفاع عن المدنيين. وفي مطلع يوليو، عاد الجيش السوري لحصار حماة مرة ثانية إثر مظاهراتها الضخمة في الفترة السابقة، وفي 10 يوليو، خرج مئات المتظاهرين فيما عرف «بمظاهرة المثقفين والفنانين» للمطالبة بإيقاف «الحل الأمني»، ومع اشتداد المظاهرات من جهة، واشتداد الحل الأمني من جهة ثانية، أرادت المعارضة السياسية السورية أخيرا إيجاد جسم موحد يمثل الحراك الشعبي، فعقد أولا مؤتمر الإنقاذ الوطني السوري، وبعد حوالي شهرين من الجدال والمفاوضات، تأسس المجلس الوطني السوري، في 2 أكتوبر، الذي اعترف به ممثلا شرعيا للمعارضة السورية.
السعودية تسحب السفير في أغسطس طلب العاهل السعودي الملك عبدالله بن عبدالعزيز إنهاء إراقة الدماء في سورية وسحب السفير السعودي من دمشق، وقال رحمه الله «إن ما يحدث في سورية ليس من الدين ولا من القيم والأخلاق». وكانت قطر في يوم الاثنين 18 يوليو، قررت سحب سفيرها لدى سورية وأغلقت سفارتها، وشهدت الفترة ذاتها سحب الكويت والبحرين أيضا لسفرائهم في دمشق، و أصدرت الجامعة العربية أول بيان لها فيما يخص الأحداث. وفي 29 يوليو، ولد تنظيم ثان هو «الجيش السوري الحر» بقيادة العقيد المنشق رياض الأسعد. لكن لم يخض الجيش الحر معركة حقيقية حتى 27 سبتمبر، عندما اندلعت معركة الرستن وتلبيسة بينه وبين الجيش النظامي، والتي استمرت قرابة أسبوع، وانتهت بانسحابه مؤقتا من كلا المدينتين. في 18 أغسطس، أعلنت الولاياتالمتحدة الأميركية وفرنساوبريطانيا وألمانيا والاتحاد الأوروبي وكندا أن بشار الأسد قد فقد شرعيته بالكامل وبات عليه التنحي فورا عن الحكم. وفي 22 أغسطس، زارت أول بعثة من مجلس حقوق الإنسان البلاد، ونظمت جولات في دمشق وحمص، وفي اليوم ذاته، أعلنت المفوضة العليا لحقوق الإنسان نافي بيلاي أن حصيلة ضحايا قمع الحركة الاحتجاجية في سورية ارتفعت إلى 2200 قتيل حتى تاريخه. مجلس الأمن الدولي تحرك للمرة الأولى، يوم 4 أكتوبر، حين قدمت بريطانياوفرنسا وألمانيا والبرتغال مشروع قرار يدين النظام السوري ويطالبه باحترام حقوق الإنسان والبدء بإصلاحات سياسية، غير أن استخدام روسيا والصين حق النقض أجهض المشروع. وفي 7 أكتوبر، تسبب اغتيال مشعل تمو المعارض السوري الكردي البارز ورئيس تيار المستقبل الكردي السياسي سابقا، بتحرك مظاهرات حاشدة في المناطق الكردية مثل الحسكة والقامشلي، قدر عدد المشيعين بنحو 50 ألف شخص، كما شهدت المناطق الكردية إضرابا عامّا، وتزامنا، اقتحمت عدد من السفارات السورية في أوروبا، في بريطانيا وألمانيا والنمسا وسويسرا.
سورية واللاعبون الثلاثة سورية تعيش أزمة، لا نظام الأسد تمكن من قمع الثورة، ولا الجيش الحر والانشقاقات استطاعت إسقاط بشار. المشهد السوري تتحكم فيه عدة دول يأتي على رأسها إيرانوروسيا وإسرائيل، ثم دول مؤثرة بدرجات أقل أهمها تركيا، هذه الدول دعمت بقاء الأسد في سدة الحكم، أو دعمت عدم سقوطه. على الأرض يقوم الأسد بعمليات تطهير للمناطق ذات الطبيعة العلوية السنية المشتركة، طامحا في الوصول إلى 20% من مساحة سورية، يكون دولة علوية إذا اضطر لذلك كآخر وأسوأ الخيارات، وقد زاد من التصعيد العسكري. بدورها، إيران تخسر أهم حليف في المنطقة، ورغم تيقنها من زوال حكم بشار إلا أن التمادي في دعمه يحقق لها غايات عدة، على رأسها فرصة السير الحثيث ببرنامجها النووي، كما أن الأزمة السورية سمحت بالاختراق العكسي من حزب الله لسورية، ومن العراق لسورية، لوجود مسارات بديلة لاختراق سورية أيا كان النظام القادم. إسرائيل تعرف أن نظام الأسد حليف مميز، وتعرف أيضا أنه قبل الآخرين من يحمي الجولان ويبقيه محتلا، وأن تصريحات مخلوف العام الماضي محاولة جلب دعم ليس إلا، إسرائيل كانت تلتزم الصمت وتعاتب كلينتون وغيرها من المسؤولين الأميركيين إذا صعدوا، ومؤخرا أيقنت أن سورية باتت دولة منهارة بلا جيش ولا بعث، وبأعلى مستوى تدميري للبنية التحتية كما يقوم الأسد بامتياز، مما يولد دولة بلا مؤسسات تشابه العراق بعد 2003، والدول المنهارة خصوصا العربية، تحتاج أعواما للبناء الداخلي، مما يحيد سورية كخطر محتمل على إسرائيل. لاعب الشطرنج الروسي لا ينسى أبدا الذي حصل له في رقعة ليبيا ومن أمام أميركا والأطلسي، وخرج من أرض حليف مهم في خاصرة دول حوض المتوسط، ولذا حاول الروس استغلال بيع سورية أكثر من مرة، فالفيتو في مجلس الأمن دفعته إيران، وبعده حاولت بيع تمرير القرار دون فيتو على قطر والسعودية تحديدا، وقد صرح رئيس وزراء قطر بأن مطالب روسيا مبالغ فيها، روسيا كذلك لا تريد خسارة الاستثمارات بعد تغيير أو تقليم النظام.