حفل التراث العربي بأنواع شتى من التأليف، فلم يدع المؤلفون موضوعا لم يكتبوا فيه، فقد ألفوا في الموضوعات الجادة في دقائق العلوم والفنون، ولم يغفلوا الموضوعات الطريفة، كما خصوا كل موضوع بتأليف، وكل مسألة بمصنف، وكل فن بكتاب أو رسالة، في جد أو هزل. الحسن والقبيح كتاب» المحاسن والمساوئ « جمع فيه مؤلفه مجموعة من المقابلات البارعة بين الشيء وضده، وبين الحسن والقبيح في كل ما يصدر عن الإنسان من حب وكره، ووفاء وجحود، وإيمان وكفر، ويقظة وغفلة، وهمة وكسل، وصدق وكذب، وتأنّ وعجلة، وشجاعة وجبن، إلى آخر ما يصدر عنه من غث القول وسمينه، ومؤلفه إبراهيم بن محمد البيهقي الذي يرجح أنه عاش بين عامي 265، و320 ه، ونبغ في خلافة المقتدر، ولا تذكر المصادر شيئا آخر عن حياته، أو كتابا آخر له غير المحاسن والمساوئ. ويشرح محققه محمد سويد أن البيهقي بدأ بالكتب، كتب الله المنزلة على رسله وأنبيائه، وعلى رأسها القرآن الكريم، كما بدأ بمحاسن رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين وآل بيته الطيبين، وهو بهذا إنما يشير إلى استثناء هؤلاء جميعا من المساوئ التي تصدر عن غيرهم من بني الإنسان، متعمدا أن يذكر مساوئ من اعتدى على هذه الرموز العظيمة، كمن عادى عليا كرم الله وجهه، أو قتل الحسين رضي الله عنه، ثم انتقل إلى الموضوعات المختلفة، كما تتنقل النحلة من غصن إلى غصن، ولم ينس أن يسري عن القارئ، فأتحفه بمجموعة من النوادر الطريفة، كل ذلك بأسلوب ممتع سهل. وقد طبع الكتاب عدة طبعات، إحداها عن دار صادر، وطبعة ثانية بتحقيق محمد بدرالدين النعساني الحلبي بمصر، وثالثة بتحقيق الألماني فردريك شفاللي، وأخيرة بتحقيق وشرح الشيخ محمد سويد؟! وهي التي بين أيدينا. أقوال مأثورة نقل البيهقي في أول كتابه في محاسن الكتب قول مصعب بن الزبير: إن الناس يتحدثون بأحسن ما يحفظون، ويحفظون أحسن ما يكتبون، ويكتبون أحسن ما يسمعون، فإذا أخذت الأدب فخذه من أفواه الرجال، فإنك لا تستمع منهم إلا مختارا، وقول لقمان لابنه: يا بني تنافس في طلب الأدب، فإنه ميراث غير مسلوب، وقرين غير مغلوب، ونفيس حظ في الناس مطلوب. ثم افتتح البيهقي كتابه بمحاسن رسول الله صلى الله عليه وسلم رجاء الفضل والبركة واليمن والتوفيق، فيقول: اختار الله من خير أرومات العرب عنصرا، ومن أعلى ذوائب قريش فرعا، ومن أكرم عيدان قصي مجدا، ثم لم يزل بلطفه لنبيه صلى الله عليه وسلم وآله واختياره إياه بالآباء الأخائر - جمع أخيار - والأمهات الطواهر حتى أخرجه في خير زمان وأفضل أوان، تفرع من شجرة باسقة الندى شامخة العلى عربية الأصل قرشية الأهل، منافية الأعطان هاشمية الأغصان، ثمرتها القرآن، تندى بماء ينابيع العلم في الرياض الحلم، لا يذوي عودها، ولا تجف ثمرتها، ولا يضل أهلها، أصلها ثابت وفرعها نابت. مساوئ ومحاسن - وفي مساوئ الرجال ذكر البيهقي أنه تنافر رجلان من بني أسد إلى هرم بن سنان المري، وعنده الحطيئة، فقال أحدهما: إني بقيت زمانا وأنا أرى أني شر الناس وألأمهم حتى أتاني هذا فزعم أنه شر مني، فقال هرم: أخبراني عنكما، فقال أحدهما: لم يمر بي أحد قط إلا اغتبته، ولا ائتمنني إلا خنته، ولا سألني إلا منعته، وقال الآخر: أما أنا فأبطر الناس في الرخاء، وأجبنهم في اللقاء، وأقلهم حياء، وأمنعهم حباء، فقال هرم: وأبيكما لقد ترددتما في الشر، ولكن أخبركما بمن هو شر منكما، قالا: ما ولدت ذاك النساء، قال: بلى، هذا الحطيئة هجا أباه وأمه ونفسه ومن أعطاه ومن أحسن إليه. - ومن محاسن البنات قوله: دخل عبدالله بن الزبير على معاوية بن أبي سفيان وبنية له تمرّغ على صدره، فقال: أمِطها عنك يا أمير المؤمنين، فإنهن يقربن الأعداء، ويورثن البُعداء، فقال معاوية: مهلا يا ابن الزبير، ما مرض المرضى، ولا ندب الموتى، ولا بر الأحياء كهن، فقال ابن الزبير وقد تركتهن آثر عندي من الأبناء. الشعر والثقلاء - ومما أورده من مساوئ الثقلاء قول الشاعر: يمن له حركات على النفوس ثقيله وليس يعرف معنى قصيرة من طويله أورثتني بجلوسي إليك حمى مليله فاصفع لنفسك عني فإن كفي عليله