يرى مؤلف كتاب: الأرض الجديدة (إكهارت تولي) أن "الأنا" الإنسانية هي السبب الرئيسي للمشاكل التي يعانيها جميع البشر. ويعرف "الأنا" بأنها التماهي/التوحد مع الأفكار. هذا التماهي هو المسؤول عن كون تفكيرنا في معظم الأحيان تفكيرا غير واع، وهو الذي يقود تصرفاتنا وعواطفنا. إن التفكير بدون إدراك أو وعي هو معضلة الإنسان المعاصر، لأن الإنسان يتوحد معه، أي لا يدركه كشيء غريب، ومن خصائصه هذا التفكير أيضا أنه يحدث بشكل مستمر وإجباري ولا إرادي. وغالبا ما يقبع خلف هذا التفكير المستمر عواطف سلبية مثل الإحساس بالتعاسة والقلق والغضب والكراهية والامتعاض والحقد والحزن وعدم الرضا والغيرة والحسد وما إلى ذلك. القرآن استعرض خصلتين سلبيتين ذميمتين من خصال الأنا، وهما الغيرة والحسد، بطريقة لافتة ومعبرة، من حيث سرد آثارهما وتوقيت حصوله. منذ بداية الخليقة كان قتل أحد ابني آدم لأخيه بسبب الغيرة والحسد. والقصة أن هابيل تقدم بقربان إلى الله، قيل عبارة عن حزمة من سنبل، وتقدم قابيل بقربان قيل عبارة عن كبش، فتقبل الله قربان هابيل، فَرُفع إلى الجنة، ولم يُتقبَّل قربان قابيل، فأصابت الغيرة قابيل، فحسد أخاه، وقال: لا بد أن أقتلك، وبالفعل ارتكب أول جريمة قتل في تاريخ البشرية. لقد استعرضت سورة المائدة هذه القصة في الآيات من 27-31، وبالتفصيل الممتع. هناك أيضا مغزى عظيم لتوقيت حصول هذه القصة، إذ إنها تشير إلى أن الخصلتين الأنويتين (من الأنا) اللتين تسببتا في الجريمة، أي الغيرة والحسد، هما خصلتان كانتا موجودتين في جدنا الأول، وسيرثها منه كل البشر الذين سيأتون بعده ومن نسله، ولذا وجب الحيطة والحذر من أن ما يَتجذَّر فينا بهذه الصورة لن يفارقنا بسهولة، وعلى البشرية أن تتعامل معه حتى فنائها من على وجه الأرض. وأما ما سيساعدنا على التخلص من هاتين الخصلتين الأنويتين فهو، أولا: طلب العون من الله، وأخذ العبرة من كلامه، وثانيا: المثابرة والعمل على النفس بغية تحجيم الأنا أو التخلص منها كلية، وذلك عبر إدراك الإنسان لذاته غير اليقظة من خلال وعي جديد وناشئ، وثالثا: عبر العيش في اللحظة الراهنة من خلال ما يسمى بالحضور، والعمل على النفس هذا يتماشى مع الحكمة الإلهية القائلة: "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم". ومما يشي بخطورتهما أيضا، هو كون بداية ظهورهما فينا كأطفال يحصل منذ عمر مبكر جدا، وذلك عندما تبدو "أنا" البشر بالتكوُّن، أي عندما نبدأ بنطق ياء الملكية، كما في لعبتي وسيارتي وصورتي... كذلك نلاحظ من المشاكل التي تحدث بين البشر في هذا العصر أن هاتين الخصلتين ما زالتا تعملان بصورة فعالة، وما هذه الخصومات التي تحدث بين الإخوة بسبب تركة الوالد المتوفي إلا مثال بسيط وواضح ويحدث بصورة متكررة في مجتمعنا. ولأن هاتين الخصلتين بتلك الأهمية، فإن القرآن أورد قصة أخرى من أجل العبرة بأخذ الحيطة والحذر. هذه القصة هي قصة يوسف مع إخوته. لقد انتابت الإخوة الغيرة والحسد، بسبب حب أبيهم لأخيهم يوسف، وقرروا التخلص من أخيهم، وفعلوا ولكن بصورة مؤقتة. لقد استعرضت سورة يوسف هذه القصة في الآيات من 6-18، وبالتفصيل الممتع. يرى إكهارت تولي أن من شأن تمتعنا بخصال إيجابية التقليل من وهج الخصال الأنوية الآثمة، وأنه بعكس العواطف السلبية، فإن العواطف الإيجابية لها أيضا تأثير إيجابي على صحة الجسد. لذا فإنه ينصح من كان منا ضحية للغيرة والحسد أن يعفو ويصفح، وأن لا يجابه الضحية الشخص الجاني بخصاله الأنوية الآثمة، بقوله مثلا: أنت إنسان غيور وحاسد، فإن من شأن المجابهة أن تقود إلى تكبر الأنا وإصرارها على الخطأ، وألا ينجر الضحية وراء غريزة الانتقام. وهذا ما أرادت أن تخبرنا به قصة يوسف عليه السلام. إذ قال يوسف: (... يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن وجاء بكم من البدو من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي..). إذن الشيطان هو السبب، وحسد الإخوة. وقد طلب الإخوة من الأب أن يعفو ويصفح ويستغفر لهم ذنبهم، ففعل. ومن الخصال الإيجابية الأخرى التي يُشدِّد عليها القرآن، التواصي بالصبر والتواصي بالمرحمة، وبذل المال في وجوه الخير، وكظم الغيظ، وكذلك خصلة التفاؤل، لأن مع كل عسر يسرا. ويحذر القرآن من خصال أنوية لا تقل خطورة، كاتباع الظن وما تهوى الأنفس، والغرور والتفاخر والخيلاء والاستكبار والبخل، على سبيل المثال لا الحصر.