في حلقة اليوم، يعرج الزميل تركي الدخيل في كتابه "هشام ناظر.. سيرة لم ترو" للحديث عن مسيرة ناظر الطموحة، مشيرا إلى أن هذا الأخير كأنه نذر أن يزيح كل عائق أمام تحقيقه ما يريد، وأنه يعمل على نقل بلاده إلى حيث يجب. من بغداد إلى الخرطوم إلى الهيئة المركزية للتخطيط بعد تعيينه وكيلَ وزارة، حضر هشام ناظر مؤتمر بغداد الذي عُقِدَ بعد هزيمة 1967، واحتلال الضفة الغربية، وسيناء والجولان. لم تكن معايشة ناظر وجدانية فقط، بل كان جزءا من المشهد، فقد حضر مؤتمرات تحدثت وناقشت وتداولت هذا الشأن، ومن مؤتمر بغداد، عاد ليصعد السلم الوظيفي درجة درجة، فانتقل من وكيل وزارة، ليصبح رئيس الهيئة المركزية للتخطيط بمرتبة وزير، ثم وزيرا للتخطيط، و"مهندسا" للخطة الخمسية. اجتمع وزراء المالية والبترول في بغداد في محاولة جادة للخروج من الأزمة التي أحدثتها الكارثة الكبرى التي حلت بالعالم العربي بعد نكبة 1967. قبل الاجتماع، كان مجلس الوزراء في المملكة قد ألّف لجنة فنية لغرض دراسة أزمة الهزيمة، وما يمكن أن تقدمه الرياض بتروليا للأمة العربية، وإعداد رؤية متأنية، ورفع التوصيات إلى مجلس الوزراء. يومها، اتُفِقَ على أن يُوكَلَ إلى وكيل وزارة البترول آنذاك، هشام ناظر، وجهازه الفني، وضع الدراسة الأولية للرؤية السعودية السابقة. وبالفعل، أُعدَّت بشكل مهني، وخرجت بنتائج واستنتاجاتٍ تقول إن البترول العربي الذي كان الثوريون العرب ينادون بقطع إمداداته عن الغرب، في موقف احتجاجي على العدوان، هو في الواقع سلاح ذو حدين، أي أنه وبالقدر الذي كان قطع البترول سيؤذي مناهضي الأمة العربية، فإنه كان أيضا سيؤذي الأمة العربية وأصدقاءها من الدول العربية والإسلامية والدول النامية الأخرى في إفريقيا، والتي كانت تصوت في الغالب لمصلحة القضايا العربية في هيئة الأممالمتحدة. آنذاك، لم توصِ الدراسة بأيّة خطة مواجهة، لإيمان كاتبيها بأن قطع البترول أو عدم قطعه، هو قرار سياسي أولا وأخيرا، وليس قرارا اقتصاديا. بعد أسابيع، ذهب الوفد السعودي للمشاركة في مؤتمر بغداد برئاسة الأمير مساعد بن عبدالرحمن، وزير المالية آنذاك، وكان ضمن الوفد وزير البترول أحمد زكي يماني، وهشام ناظر، الذي يروي أن مقاربة الملفات في المؤتمر حصل من جانب سياسي لا اقتصادي، وبأن الفصل كان واضحا في المواقف بين الثوريين الذين كانوا يؤيدون قطع البترول من جهة، يمثلهم بوضوح مصر وسورية والجزائر وليبيا والعراق، وبين منتجي البترول من جهة أخرى، وهم: المملكة والكويت وقطر. خلال اجتماع وزراء البترول والمالية، قرر المجتمعون فصل العمل السياسي عن العمل الفني، وشكلوا لجنة فنية من كل الدول لتناقش الوضع من الناحية العملية، وتم اختيار هشام ناظر كي يمثل السعودية في تلك اللجنة. اجتمعت اللجنة، وخلال الاجتماع، قدم ناظر الدراسة التي تم نقاشها في السعودية، وتبين في المؤتمر أن الدراسة السعودية، كانت الدراسة الوحيدة التي قُدّمَت إلى اللجنة، إذ لم تُقدّم أي دراسة فنية للمؤتمر سواها. أي أن مواقف تأييد قطع البترول، ومعارضته كانت كلها مبنية على انفعالات عاطفية، ليس أكثر! خلال ذلك الاجتماع، لاحظ ناظر الصمتَ الذي كانَ عليه ممثل الجزائر في أكثر الأوقات، ومشاركتهُ المتواضعة في النقاشِ بينَ الحينِ والآخر، والذي إن حصل على قلته، فإنما يتمُّ باللغة الفرنسية، لا العربية. مشاركة ممثل الجزائر المتواضعة تلك، اختُتِمَت بطلبه الكلام، فأُذِنَ له. خلال حديثه، قامَ ممثلُ الجزائر بمهاجمة "الرجعيين" بضراوة، وهو بهذا كان يقصدُ المملكة، متهما إياهم بعرقلة مسيرة الأمة العربية، ملمحا إلى أن على الرجعيين أن يتبرّعوا لدول المواجهة بالمال. كان هذا الكلامُ كافياً لاستفزاز ناظر، الذي كان يستمعُ وإلى جانبهِ السفيرُ السعودي في العراق، استفزازا دفعهُ فوراً لطلب الكلامِ للردِ عليه. حينها قال ناظر: "الذين تتهمهم بالرجعية يا حضرة ممثل الجزائر، هم أصل العرب، وهم أهل الجزيرة العربية، ولغتهم هي اللغة العربية، أما أنتَ، فهل أتيتَ إلى هنا لتعلمنا العروبة بغير لغة أهلها، باللغة الفرنسية؟! أما مسألةُ التبرع، فدعني أقولُ لكَ بوضوحٍ إنَّ من أراد التكرم فليفعل ذلك من جيبهِ، لا من جيبِ غيره"! بعدما فرغَ ناظر من الكلام، انسحب ممثلُ الجزائرِ من الاجتماع. بعد انتهاء أعضاء اللجنة من اجتماعهم ومداولاتهم، اجتمع الوزراءُ من جديد، وصدَر عنهمُ بيانٌ أكّدَ بأن "النفطَ سلاحٌ.. لكنهُ سلاحٌ ذو حدّين"، وهو ما يعني أن البيان تبنى مخرجات الدراسة السعودية.
مؤتمر الخرطوم يروي هشام أنَّه رافق عمر السقاف للاجتماع التحضيري لقمة السودان، بسبب اطلاعه على وقائع مؤتمر بغداد، الذي لم يكن السيد السقّاف حضره. يعرضُ هشام ناظر رؤيتهُ لعدمِ أخذ قرارٍ يقضي بقطع البترول؛ الرؤية التي تعبّر عن موقف المملكة العربية السعودية آنذاك، فيقول: "لقد كان موقفُ المملكة، ودول الخليج، موقفاً متوافقاً مع مواقفِ دولٍ أُخر حضرت ذلك الاجتماع، منها تونس والمغرب، والمبني على أن في قرار وقف تصدير البترول ضَررٌ على المنتج والمستهلك، لكن الضرر على المُصَدِّرِ أكثر منه على المُصَدَّر إليه، وبأنَّ قراراً كهذا كانَ يحتاجُ ظرفاً سياسياً ملائماً، وهذا ما كانَ ينقصنا آنذاك. لقد كانت الدول العربية حينها، تعاني من خلافٍ حاد، سببهُ قناعة البعض بأن بين هذه الدولِ من قادنا إلى كارثة. وعليه فإنه ليسَ لمن كان سبباً في صنع الكارثة أن يُملي على من لم يسهم في الكارثة، الطريقة المثلى للمواجهةِ، وهو الخارجُ لتوه كسيراً».
مساعدة فوق احتمال الاقتصاد السعودي يروي هشام، أن السيّد عمر السقاف، كان متوتراً أكثر الوقت، خلال الاجتماعات التحضيرية التي عقدها وزراء الخارجيةِ في الخرطوم، فكان يضطر للخروج من القاعةِ بين الحينِ والآخر، وكان هشام ناظر يجلس مكانهُ مُدَوِّناً، على عادته، كل كلمات ومواقف وزراء الخارجية، وبعد انتهاء الاجتماعاتِ يصعدُ ناظر إلى غرفته في الفندق، ليرتب أفكارهُ ويربط ما بين الحاصل في الخرطوم، وما حصل في بغداد، إلى أن انتهى بتقرير مفصل عن الموضوع كله، كان مقررا أن يرفعهُ إلى رئيسه، وزير البترول السعودي، أحمد زكي يماني. بعد انتهاء اجتماع وزراء الخارجية في الخرطوم، وصل إلى السودان الملك فيصل على رأس الوفد السعودي، فنادى الملكُ عمر السقّاف وهشام ناظر، خلال دخوله إلى غرفة الاستقبال، ليسألهم عن نتائج اجتماع وزراء الخارجية. يوضحُ هشام ناظر ما حصل قائلاً: "بعد انتهائنا من اجتماعات وزراء الخارجية، سأل الملك "رحمه الله" السيّد عمر السقّاف، عن نتائج الاجتماع، فعاجلهُ المرحوم عمر بالجوابِ التالي: "لا شيء". أظهرَ الملك فيصل استغراباً شديداً، وعاد وسأل: "كيف ولا شيء؟!" طبعا، لم يكن السيد السقّافُ يعني آنذاك أنَّ الاجتماع انتهى بشكلٍ سلبيٍ دون شيء تماماً، بل كان يعني أن الاجتماع لم يتوصّل إلى شيء فاعل! في وقت مُقَارب، كان هشام ناظر، انتهى من كتابة تقريرٍ مهم، ربط فيه بين المؤتمرين، بغدادوالخرطوم، وحلّل الأمور فيه تحليلا اقتصاديا وسياسيا، وكان ينوي رفعه إلى رئيسه المباشر الوزير يماني بعد العودة إلى السعودية. علم هشام ناظر، أنَّ تقريره الذي فرغ من كتابته، حينها، سيسد ثغرة مهمّة، وسيقدم للملك فيصل رؤية كاملة، تمكنه من اتخاذ ما يراه من قرار سياسي، بناء على رؤية فنية متخصصة، تضع المطلع عليها في أجواء مؤتمري بغداد البترولي، والخرطوم التحضيري. لكن المشكلة التي واجهت هشام يومها، كانت مشكلة التراتبية الإدارية، إذ لم يكن لديه الصلاحية التي تخوّله لرفع تقريره للملك مباشرة، وهو وكيل وزارة البترول حينها، بل لوزيره المباشر. إلا أنه، وحينَ رأى الملك على قلقٍ، بسبب عدمِ وجودِ أية معلوماتٍ جاهزة عن المؤتمر، قرّر إشراك غيره في هذه الإشكالية، فلم يجد مثل الأميرِ سلطان بن عبدالعزيز، إذ ذهب إليه، وقال له: "سمو الأمير، لا أحبُّ التدخلُ في ما لا يعنيني، إلا أنَّني، وتنفيذاً لمهامي، كتبتُ تقريراً ربطتُ فيه بينَ مؤتمري بغدادوالخرطوم، وحلّلتُ الأمورَ تحليلاً اقتصاديا سياسياً، وهذا التقريرُ، سأرفعهُ لوزيري، وزير البترول والثروة المعدنية، ذلك أن حدودَ صلاحياتي تنتهي عند هذا الحد، فإن أحببتم أن أطلعكم عليه، فأنا مستعدٌ لذلك". فأجابني الأمير سلطان "رحمه الله": "أعطني التقرير، يا هشام". يومها، ومباشرةً، أذكرُ أن الأمير سلطان أخذ التقرير ودخل بهِ على الملك فيصل، وعلمتُ أن الملك، وبعدَ قراءته، ارتاحَ لمضمونِ ما جاء فيه. بعدَ ساعات، التقيتُ الملك "رحمه الله"، فسألني مباشرةً: "يا هشام، لو أحببنا مساعدتهم، ما المبلغُ الذي تقترحُ أن نساعدهم به؟". فأجبت الملك، وأنا الذي لم أكنْ أعرفُ الدائرَ في رأسه: "أقترحُ مساعدتهم بخمسةِ ملايين دولار، يا جلالة الملك". فأجاب الملك: "لا، يا هشام… حاول أن تزيدهم قليلا". ذهبتُ بعد جوابه هذا وأخرجتُ جميعَ الميزانياتِ المتوافرة، وبدأتُ بالتفكير بالمشاريع التي يجبُ علينا إيقافها في السعودية لغرضِ زيادة التبرع، وحسبتُ المال المتوافر لدى السعودية، وبعدها عدتُ إلى الملك وقلتُ له: "يا جلالة الملك، لقد قمتُ ببعض الحسابات، ووجدتُ أن بلادنا تستطيعُ، بعد عصرِ نفقاتها، أن تسهم ب15 مليون دولار". لم يجبني الملك، بل فضل السكوت على ذلك. إلاَّ أن جوابهُ أتى مدوياً حينَ دخلَ إلى القاعة، حيثُ كانَ يُعقدُ الاجتماع الرسمي للقادة، وأسهم بمبلغ 55 مليون جنيه إسترليني، وليس دولارا أميركيا، علما أن دخل المملكة كله، في تلك السنة، كان حوالى 900 مليونا، وإنتاجها حوالي 2.5 مليون برميل في اليوم. يومها خرجَ السيّد أحمد عبدالوهاب، رئيسُ المراسم، "يشدُّ شعره" وسألني، وهو الذي كان يظنُّ بأني أنا من اقترحَ الإسهام بهذا المبلغ: "يا هشام، هل سمعتَ بالذي حصل؟ ماذا قلتَ للملك؟" فأجبتهُ: "يا سيد أحمد، لم اقترح عليه، بعد أن سألني إلا الإسهام ب15 مليون دولار". فأجابني: - «Are you sure? لقد أساهم الملك برقم أعلى بكثير من هذا، لقد أسهم بمبلغ 55 مليون جنيه إسترليني!" لم يفهم أحدٌ لماذا أسهم يومها الملك بالإسترليني، لا بالدولار… وأذكرُ يومها، أن الخبر نُشرَ في جميع وكالات الأنباء، ولم تبقَ وسيلةُ إعلام إلا وتحدثت به. انتهى المؤتمرُ، وحزمنا أمتعتنا للعودة إلى المملكة. في طائرة العودة، والتي لم تكن طائرة خاصة، كان الملك فيصل "رحمه الله" يجلسُ في المقعد الأول، وكان الأمير سلطان "رحمه الله" وأنا، نجلس في المقعد الذي يقعُ خلف مقعده تماما، خلال الرحلة، دخلَ الملك إلى دورة المياه، وبعد خروجه، عرّج علينا وسألنا: "إيش بتتكلموا؟" واقعاً، كنَّا ساكتين ولم نكن نتكلمُ بشيء مطلقاً، إلاَّ أن الأمير سلطان أجابه: "ترى طال عمرك، هشام زعلان". فأجاب الملك: "من إيه؟". فأجبتهُ: "طال عمرك، من فين حنجيب المبلغ ده؟". فأجابني الملك: "هذا شغلكم، أنتم تجيبوه"، "يقصدُ أنتم في وزارة البترول"! مهندس الخطة الخمسية يرى هشام ناظر أن تعيينهُ رئيساً للهيئة المركزية للتخطيط، حدثٌ في ذاته، لا لأنهُ اختير من بين آخرين، بل لأنَّ تعيينهُ حصلَ يومَ كانت المملكة بلداً متواضعَ الدخلِ، لا يؤمنُ بالتخطيط، ولا بخطط خمسية، وورشِ عملٍ ضخمة، وأيضا لأنَ تعيينهُ حصلَ في الوقتِ الذي كانت فيه الأجهزةُ الحكوميةُ في بلاده، لا تألفُ أيَ نوعٍ من القيودِ التي لا تؤدي إلى تغيير عملها فحسب، بل إلى قَلبِ طرائقِ عملها رأساً على عقب. هيئة للتخطيط، تعني أن تحدد هذه الهيئة للوزارات والإدارات الحكومية خططا لعمل هذه الجهات، وهو ما يعني قيوداً وضوابط لهذه الأجهزة، وهو أمرٌ يعلم رئيس الهيئة المركزية للتخطيط جيداً، أنه لم يكن الخيار المفضّل لهذه الجهات والعاملين فيها. لم تكُن هذه التعقيدات جبلاً يحجب الضوء الآتي، وثقلاً يكسرُ الهمّة بل كانت لهشام ناظر، طريقا يكتشف خلاله، أسرارَ السفرِ في دروبِ غير معبدّة، وطرائق للسفرِ باتجاه النجاح: "لقد أتوا بي إلى موقعي هذا، من أجل وضعِ خطة تنمية، ولأنهم فعلوا ذلك، فستكونُ هناكَ خطة تنمية". هكذا حدّد هشام هدفاً يجب تحقيقه والعمل عليه، أيا كانت المعوقات! استلم هشام ناظر موقعه رئيسا ل"الهيئة المركزية للتخطيط"، فقرر أن يُحدثُ تغييراً شاملاً، يوازي قيمة هيئة بهذا التوجه، في بلدٍ حديث، مواكباً طموح الملك فيصل، الذي عبّر عنه في خطابه الملكي من أن بلاده لا تسير إلا وفقاً لخطط. قدّم هشام ناظر خطة التنمية الأولى عام 1970، ضمن سلسلة من خُطَطٍ خَمْس، على مدى 18 عاماً، كان قد قدمها وهوَ في موقعيه، رئيساً لهيئة التخطيط في البدايات، ثمَّ وزيراً للتخطيط، وهو الموقعُ الذي تمَّ تعيينُه فيه إثر تحويلِ "الهيئة المركزية للتخطيط" إلى وزارة، يرأسها وزيرٌ كاملُ الصلاحيات، وعضوٌ في مجلسِ الوزراء السعودي. لم تكن التكنولوجيا، متوافرة، والأجهزةُ الحديثةُ نادرة الوجودِ في تلك الأيام، وهذا ما كان يستدعي وضع الخطط على لوحاتٍ كرتونية ضخمة، وحملها في سيارة نقل، لغرضِ عرضها على كل الوزراء منفردين، في بيتِ كل واحدٍ منهم، أو في مكتبه، في محاولة جادة لكسب تأييدهم، أو تأييد العدد الأكبر منهم، أو الاستئناس بآرائهم، إن وُجِدَت قبل عرضها على مجلس الوزراء. لم ينسَ هشام بذل جُهدٍ موازٍ مع رأس الهرم الإداري السعودي آنذاك الملك فيصل، فطلبَ مقابلتهُ مع فريق عمله، فحصل لهُ ذلك، إذ أعطى الملكُ موعداً لهم مساء جمعة في مدينة الطائف، وهوَ يوم عطلةٍ في السعودية. في تفاصيل اللقاء، يروي هشام ناظر أن الملك جلسَ معهم لساعات مطلعاً على تفاصيل الخطّة الأولى للتنمية، بندا بندا، ولوحة لوحة، ويُكثرُ من الأسئلة، إلى أنْ قال لهم نهاية الاجتماع: "طيّب، اعرضوها على عمي مساعد". فأجابهُ ناظر: "لقد عرضناها على العم مساعد، وهو موافق". ابتسم الملكُ ابتسامة رضا، ومعها غادرَ الزائرونَ، مسرورين برضا الملك، وقبوله من حيث الإجمال، لخطتهم الأولى.
تعيين في طائرة: مسافر بمرتبة وزير لا يعرف هشام ناظر السبب المباشر وراء تعيينه رئيسا للهيئة المركزية للتخطيط، إلا أنهُ، يشيرُ إلى مجموعةٍ من العواملِ التي يَظُنُّ أنها كانت الحاملَ على تعيينه في هذا الموقع، منها ما حصلَ في مؤتمري بغدادوالخرطوم، واطلاع الملك فيصل على أدائه، وطرائق عمله وتقاريره. لا يمكن للذاكرة أن تتنازل عن قوتها، ولو تقادم العمر بصاحبها، خصوصا عندما يكون الحدث فارقا في المسيرة بهذا التعيين. يروي هشام ناظر أنه كان في طريقه من بيروت إلى اليابان يوم أتاه خبر تعيينه رئيسا للهيئة المركزية للتخطيط، فيقول: "قبلَ أيام من صدور أمر التعيين، سافرت إلى بيروتَ، لزيارة صديق عزيز علي، المرحوم علي شبكشي، ومن بيروت غادرتُ لحضور اجتماع مجلس إدارة الشركة اليابانية في طوكيو، عبر خطوط "بان أميركان" التي على ما أذكر، كان خطُّ سيرها "بيروت-طهران-بانكوك -هونج كونج، لتحطَّ بنا أخيراً في طوكيو"، إلاَّ أن المفاجأة حصلت في مطار طهران: بعد مغادرتي بيروت، اتصل صديقي علي شبكشي "رحمه الله"، بإدارة طيران "بان أميركان" وأبلغهم "بأن أحد الركاب على متن الطائرة المتجهة إلى طوكيو، واسمهُ هشام ناظر، قد تم تعيينهُ على ما سمعتُ بنشرة الأخبار، بأمرٍ ملكي، رئيساً للهيئة المركزية للتخطيط بمرتبة وزير"، طالباً منهم إبلاغي في أقرب فرصة ممكنة. وبالفعل، عندما حطّت الطائرة في مطار طهران، أمسكَ مضيفُ الطائرة بالمذياع ونادى: "السيد هشام ناظر؟". أفجعني خبر إذاعة اسمي، ولكن، لم يكن لدي سبيل آخر غير الوقوف والتعريف بنفسي: "نعم، أنا هشام ناظر". فأجاب أمام كل الركاب: "إن شركة الطيران تحبُّ تهنئتكَ بشأن صدورِ أمرٍ ملكي يقضي بتعيينك وزيرا!"
وزير التخطيط وإعداد الخطة الخمسية بعد خمسِ سنواتٍ على وجوده في موقع المسؤوليةِ رئيساً ل"الهيئة المركزية للتخطيط"، وبتاريخ 13 - 10 - 1975، صدرَ أمرٌ ملكي يقضي بتعيين ناظر، وزيراً للتخطيط وهو، بتعيينه في هذا الموقع، بدأ يؤرخُ لبدايةٍ جديدة. كان هشام ناظر وزيراً، لا يجلسُ على كرسيِّ الوزارة خلف مكتبٍ فارهٍ، بل قائداً يعمل مع فريقِ عملٍ مجتهدٍ وفعّال، يحدّدُ المشاكلَ ويبحثُ عن حلولٍ لها، ويخططُ ويَكتبُ ويُسافرُ ويُحاضرُ ويَجتمعُ ويُطالبُ ويُحاولُ ويُتابعُ ويَنتقدُ ويُباركُ ويهنئ ويُعاقبُ ويُحاسبُ نفسهُ والآخرين. عَملَ هشام ناظر، يوم كان رئيساً ل"الهيئة المركزية للتخطيط"، ثمَّ يوم أصبح وزيراً ل"وزارة التخطيط"، بدعمٍ استثنائي من حكومته، على استعمال عائداتِ البترول لهدفٍ عظيم: الانطلاق بوضع البلاد في مرتبة الدولِ المتقدمة، وذلك خلال وضعِ وتطبيق خطّة خمسيةٍ للتنمية الاقتصادية والاجتماعية. خطّةٌ، بقي يعملُ عليها ل18 عاماً، وهي مدة شغله لموقعه وزيراً للتخطيط، وأكملها من بعده، إضافة إلى خُططٍ أخرى، وزراء التخطيط الذين تعاقبوا على المنصب.