بمفاهيم عريضة وكلمات تحمل مدلولات كثيرة، برر رئيس حزب النهضة التونسي، راشد الغنوشي، في حواره مع "الوطن" إعلانه فصل الدعوة عن السياسة، وهو ما أثار جدلا عربيا واسعا، مؤكدا أن "التغيرات السياسية" منذ ثورة الياسمين أجبرت حزبه على التخصص، وترك العمل الدعوي لجمعيات دينية وخيرية والتركيز على العمل السياسي. شكل قرار حركة النهضة الإسلامية التونسية الفصل بين أنشطتها الدعوية والسياسية خلال مؤتمرها الأخير منعطفا في فكر الحركات الإسلامية في تونس، إذ وصفه البعض بالجريء والتاريخي الذي خرج على الثوابت، بينما قلل آخرون من شأن القرار، معتبرين إياه مجرد مناورة سياسية، استعدادا لخوض معارك سياسية قادمة. وكانت الحركة استعرضت خلال مؤتمرها العاشر، حصيلة أدائها منذ ثورة يناير 2011 وإستراتيجية السنوات القادمة، بعد قرارها الأخير المثير للجدل. "الوطن" التقت رئيس حزب النهضة الإسلامية راشد الغنوشي، بعد فترة من هدوء ردود الأفعال على ما خرج به المؤتمر العاشر، وسعت إلى استنطاقه عن دوافع التغيير ومبررات التحول، وأسباب قرار الفصل، فأجاب بأن هذا التغيير هو إجراء فرضته السياقات السياسية، مشيرا إلى أن العمل السياسي لم يكن مسموحا به بحرية قبل الثورة التونسية، مؤكدا أن حركته كانت تتخفى وراء الدين وفي خطب المساجد والإعلام والجمعيات الخيرية. وأضاف "التغيير يعد سنة اجتماعية في العالم المتحرك، ومطلوب أن نتفاعل مع التطورات الحاصلة في تونس والعالم، فقد مرت تونس بتغيير جذري منذ الثورة، وما قبلها يختلف عما هو حاصل اليوم"، كما تطرق إلى الكثير من القضايا وفق ما تطالعونه بين سطور الحوار الآتي:
دواعي القرار بداية ما الدوافع الحقيقية وراء قراركم الأخير الذي شغل المتابعين والسياسيين؟ وهل صحيح أنه جاء استجابة لرفض البيئة التونسية للإسلام السياسي؟ الثورة نقلتنا من مرحلة الشمولية إلى مرحلة التخصص، ولم ننتقل من الإسلام إلى العلمانية، بل انتقلنا داخل الإسلام من مرحلة إلى أخرى، والأحزاب مهمتها العمل والإصلاح، انطلاقا من الدولة والمجالات الأخرى التي نظمها القانون. والأمر يختلف فقد كانت الأمور مختلطة سابقا مع نظام ابن علي، وبعد الثورة فتحت أبواب الحرية وأصبح كل من يريد أن يمارس عملا يؤديه تحت لافتته الطبيعية، ومن أراد ممارسة العمل الخيري فليقم بتأسيس جمعية خيرية، ومن يريد السياسة يكوّن حزبا، ومن يريد العمل الديني يكوّن جمعية دعوية، كما أن الدستور الوطني منع الجمع بين السياسي والديني، وبات لا يحق لأي شخص أن يكون قياديا سياسيا وعضوا قياديا في الوقت نفسه في جمعية دعوية، لذلك فإن تغيرنا جاء بالتفاعل الإيجابي مع الثورة ودستورها.
مصطلح غربي هل لكم تحفظ ما على استخدام مصطلح الإسلام السياسي لوصف الأحزاب السياسية التي لها ارتباطات وأنشطة ذات طابع ديني؟ الإسلام السياسي هو مصطلح غربي أصبح مرتبطا بالعنف، والقرار الذي اتخذته النهضة ليس دلالة على فشل العمل السياسي الإسلامي، إلا أن المصطلح بات مرتبطا بجماعات معينة نريد أن نختلف عنها ونسمي أنفسنا بالمسلمين الديمقراطيين بعيدا عن الذين يمارسون العنف والإرهاب. ولا أتصور أن تترتب على قرار الفصل في مرجعية الحزب وعلاقته بالتيارات الإسلامية الأخرى أي قطيعة، وستقوم جهات مختصة بهذا التواصل ولدينا جمعيات ومناشط في العديد من الاختصاصات، منها الرياضية والدعوية والثقافية وستنفصل عن الحزب تماما، وتعمل باستقلال، سواء في مواردها المادية أو قياداتها وسياساتها، كما أن هناك عددا من القيادات داخل الحزب، ستجد نفسها مضطرة، إما للمحافظة على عضويتها في الحزب السياسي، أو الاستقالة من الوظائف القيادية والتخصص في شأن من الشؤون المجتمعية.
تصدير التجارب هناك لبس حول الأمر، ما مدى العلاقة بين الكيان السياسي والدعوي داخل حزب النهضة؟ الفصل بين العمل الدعوي والسياسي يعني أن يأخذ كل شيء طريقه بتحييد المساجد عن الشؤون السياسية، وأن نجعل الحزب جامعا لكل التونسيين مهما كان اختلافهم. وفي الوقت نفسه لا نريد أن يكون الجامع منبرا للدعاية الحزبية، فالسياسة مفرّقة ولا نريد أن يستغل الدين لغرض سياسي، ولا نريد للسياسة أن توظف الدين. لوحظ أنه بمجرد إعلانكم فصل الدعوي عن السياسي أن بعض عناصر الإخوان في مصر تبنوا الفكرة؟ تونس بلد صغير ليس لها طموحات لتصدير الثورة أو تصدير تجربتها، وليست عندنا بضاعة للتصدير، والثورة والنهضة كلها حاجات للاستهلاك المحلي التونسي، أي متفاعلة مع البيئة التونسية وليست مادة للتصدير، ولكن إذا وجد فيها الآخرون خارج تونس ما يفيدهم سنكون سعداء بذلك، وكما استفدنا نحن من تجارب الآخرين ولكن لم نستنسخها، نسعد بأن يستفيد الآخرون من تجربتنا.
تشكيك إعلامي شككت وسائل إعلام في قرار الحركة الأخير وعدته مجرد مناورة سياسية؟ السياسة ليست حكما على النوايا، وعملنا سيشهد على أن حزبنا يطبق القانون، والدستور التونسي يفرض هذا الفصل، وهناك محاكم وحراس لهذا القانون، متمثلة في إعلام وجمعيات تراقب مدى وفاء الأحزاب مع تعهداته، ونحن أعلنا الفصل بين العمل الدعوي والسياسي وسنعمل على تطبيقه كليا. الرئيس السابق المنصف المرزوقي وصفكم بالنفاق السياسي، ما مبررات هذا الهجوم من وجهة نظركم؟ لم أطلع على هذا التصريح والمرزوقي يتحمل مسؤولية أقواله، ونحن أوصينا إخواننا بأن نحفظ العشرة مع الذين عملنا معهم على مدى ثلاث سنوات من الحكم المشترك، والعمل على الدفع بالبلاد إلى التقدم.
مراحل متدرجة ما صحة ما تردد عن وجود خلافات عميقة داخل الحركة بشأن القرار الأخير؟ اللوائح كلها تم التصويت عليها بنسبة عالية جدا تجاوزت 80%، بما في ذلك اللائحة التي سميت بلائحة تصريف العلاقة بين العمل السياسي والعمل الدعوي، وكل هذه اللوائح لم تطبخ على عجل وإنما بتأنٍّ، خلال سنتين شهدتا مئات من المحاورات والندوات. وكان التصويت عليها سريعا لأنها تعرضت لعملية طحن واستيعاب لمدة طويلة، حيث دار النقاش حول بعض القضايا التنظيمية مثل طريقة انتخاب المكتب التنفيذي: هل ينتخب من المؤتمر أم من مجلس الشورى أم يقترح من طرف رئيس الحركة على مجلس الشورى والأخير يزكيه؟ قلتم إن إعلان الفصل بين الدعوي والسياسي هو تطبيق لما ورد في الدستور والقانون، ألا يعتبر هذا التوجه متأخرا؟ الفصل بدأ عمليا منذ حصول الحركة على التأشيرة القانونية التي تخولها العمل، باعتبارها حزبا سياسيا، وذلك مباشرة بعد ثورة الحرية والكرامة في أوائل سنة 2011، ثم تكرس خلال الانتخابات البرلمانية في أواخر السنة نفسها وخلال مشاركة النهضة في الائتلاف الحكومي، حتى قبل كتابة الدستور. والمؤتمر العاشر وضع الأسس الفكرية لهذا السلوك العملي بما يجعل منه نهجا ثابتا للحركة لتتحول نهائيا إلى حزب سياسي يهتم بالإصلاح عبر مؤسسات الدولة، ويحرر المجال المجتمعي ليأخذ طريقه جزءا من المجتمع المدني المستقل.
غموض مصادر التمويل تحدث كثيرون عن حسن تنظيم المؤتمر، الذي وصف ب"الهوليودي"، من أين للحركة بكل هذا التمويل؟ حسن التنظيم لا يؤشر دائما إلى صرف أموال طائلة، بل يمكن أن يعتمد أساسا على كفاءات الحزب، وذلك ما حدث فعلا، فكل الفريق المنظم لحفل الافتتاح كان من أبناء النهضة الذي لم يتلق أي منهم مقابلا ماديا على عمله، وتبقى بعض المصاريف الثابتة، التي كانت بعيدة جدا عن الأرقام التي قدمت، في محاولة لإحراج الحركة. وفي الأخير فإن حسابات النهضة في متناول دوائر الرقابة المالية في البلاد متى ما أرادت التثبت. يتردد أن نتائج الانتخابات البلدية محسومة مسبقا لصالحكم؟ الانتخابات البلدية هي ترجمة لمرحلة جديدة تدخلها بلادنا في ظل الدستور الثاني الذي أفسح المجال لتوزيع السلطة عموديا من خلال إعطاء صلاحيات واسعة للهياكل البلدية والجهوية. ولحركة عازمة على المساهمة في إنجاح هذه المناسبة المهمة، وأن تكون مشاركة في الهياكل المنتخبة. وتونس تتحول شيئا فشيئا إلى ديموقراطية حقيقية، حيث ليس هناك انتخابات محسومة مسبقا.
توسيع المشاركة السياسية ما مواقف الحركة من اقتراح الرئيس التونسي تشكيل حكومة وفاق وطني وتنحي رئيس الحكومة وما أثارته من تبادل اتهامات؟ عبرت الحركة عن مساندتها لتوسيع الحكومة لتصبح حكومة وحدة وطنية، وهو مطلب رفعناه مباشرة بعد الانتخابات ولكن لم تتوافر شروطه وقتها. الآن وقد طرح رئيس الجمهورية الفكرة جددنا مساندتنا لها باعتبارها إن نجحت ستوفر التربة الخصبة لمعالجة التعثرات والصعوبات التي تعانيها البلاد، خاصة على المستوى الاقتصادي. أما عن رئيس الحكومة، فمعلوم أن الحزب الفائز بالمرتبة الأولى في الانتخابات هو الذي يقترح اسمه، وقد وقع الاختيار وقتها على الحبيب الصيد الذي حاز رضا واسعا في الأوساط السياسية والبرلمانية. والأطراف المشاركة في الائتلاف، بالتعاون مع رئيس الجمهورية تعمل جاهدة على تجاوز الأزمة في أسرع وقت. حدد لنا موقفكم من الصراع الليبي مع تقدم قوات حكومة الوفاق في حربها على داعش سرت؟ الحل في الشقيقة ليبيا واضح، وهو التحاق الجميع بحكومة الوفاق الوطني، خاصة بعد نجاحها في دحر القوى الإرهابية، والسير نحو مصالحة وطنية بين كل الليبيين، وعفو شامل يطوي صفحة الماضي ويفسح المجال لإعادة بناء الدولة المستقلة التي تجمع الليبيين وتضمن حقوقهم.
المرزوقي يهاجم الغنوشي ويصف النهضة بالنفاق أبها: الوطن كان الرئيس السابق، منصف المرزوقي قد شن هجوما عنيفا على تصريحات الغنوشي، وتأكيده بفصل الدعوي عن السياسي في عمل حزب النهضة، وأشار إلى أنه رفض حضور المؤتمر العام لحركة النهضة "لأنه لا يريد أن يكون من المنافقين"، حسب تعبيره، في إشارة إلى قيادات النهضة ورئيسها الغنوشي". وأشار المرزوقي في تصريحات صحفية إلى أن قيادات حزب النهضة اعتادوا على المواقف المتقلبة منذ فترة طويلة، وقال "قيادات هذا الحزب وفي مقدمتهم الغنوشي تحالفوا مع الباجي قائد السبسي دون علمي، في لقاء باريس عام 2013، بينما كانت الأخلاق السياسية توجب عليهم إعلامي بصفة مسبقة، لأني كنت وقتها شريكهم في الحكم، كما أنه خدعني عندما كنت رئيسا للجمهورية، ولم يعلمني بأن حركة النهضة ستكون لها خيارات وتحالفات أخرى، وأني لم أعد رجل المرحلة، لذلك لم أحضر المؤتمر العام لحركة النهضة، لأن حضوري سيكون من باب النفاق". وعن اللقاء موضوع الخلاف، الذي جمع بين الغنوشي والسبسي، قال المرزوقي إن الشعب التونسي ونخبه السياسية يجب أن يعلموا محتواه وتفاصيله. مضيفا أن "المال الفاسد والإعلام المنحاز والخلل في القوائم الانتخابية" هو السبب في تغيير نتائج الانتخابات الأخيرة، "التي كانت معركة مفرغة بين قطبين تحالفا عقب الانتخابات، وفي ذلك تضليل للناخبين"، حسب قوله. ومضى المرزوقي في انتقاد تصرفات الغنوشي، قائلا إن حزبه لم يكشف شيئا جديدا حول إعلانه التفرغ للعمل السياسي والابتعاد عن الدعوي، مشيرا إلى أن هذه الخطوة كان من المفترض أن تتخذ قبل فترة طويلة، لأنه لا مجال للدمج بين الدين والسياسة.