فاجأ زعيم حزب النهضة الإسلامي في تونس، راشد الغنوشي، متابعي المؤتمر العام العاشر لحزبه، الذي عقد الجمعة الماضية، عندما أشار إلى عزمه الفصل بين الدين والسياسة، والتفرقة بين العمل الدعوي الديني والعمل السياسي، في خطوة جديدة أثارت جدلا واسعا في الحركات والتوجهات السياسية، ووجدت ترحيبا كبيرا، داخل تونس وخارجها. وعقد المؤتمر في العاصمة تونس بحضور عدد مهم من الضيوف والشخصيات السياسية من تونس وخارجها، على غرار الرئيس الباجي قايد السبسي، وعدد من الأحزاب العربية والأوروبية، منها الحزب المسيحي الألماني، والحزب الشيوعي الصيني، وحزب العدالة والتنمية التركي. وأوضح رئيس الحزب راشد الغنوشي، أن حركة النهضة سوف تخرج من عباءة الإسلام السياسي، وأن الحركة حزب سياسي ديمقراطي ومدني، له مرجعية قيم حضارية مسلمة وحداثية نحو الخروج من "الإسلام السياسي إلى الديمقراطية المسلمة". مضيفا أن حزبه حريص على النأي بالدين عن المعارك السياسية، مع ضرورة الفصل بين الجهد الدعوي والعمل السياسي داخل الحركة، مشيرا إلى أن هذا الاختيار ليس قرارا مسقطا أو نتج عن الرضوخ لضغوط ظرفية، بل هو تتويج لحركة تطور ومسار تاريخي، تمايز فيه العمل السياسي عن الدعوي والمجتمعي والثقافي. وكان حزب حركة النهضة قد فاز بأول انتخابات في تونس بعد الإطاحة مطلع 2011 بنظام الرئيس السابق زين العابدين بن علي، الذي حكم تونس 23 عاما قمع خلالها الإسلاميين. وقادت حركة النهضة من نهاية 2011 حتى مطلع 2014 حكومة الترويكا، وهي تحالف ثلاثي ضم مع النهضة حزبين علمانيين، هما "التكتل" و"المؤتمر من أجل الجمهورية"، اضطرت بعدها الترويكا إلى ترك السلطة بعد أزمة سياسية حادة. ويعد حزب حركة النهضة من أحزاب الائتلاف الرباعي الحاكم في تونس، الذي تشكل بعد الانتخابات التشريعية لسنة 2014 التي فاز بها حزب نداء تونس، وحلت حركة النهضة بالمرتبة الثانية، ولا تزال ذات وزن سياسي كبير، خاصة بعد الانشقاقات التي وقعت داخل حزب نداء تونس. مراجعة الأخطاء قال الغنوشي، في افتتاح المؤتمر "حركة النهضة تطورت خلال هذا المسار من حركة عقدية إلى حزب وطني ديمقراطي مسلم، مرورا بمرحلة كانت فيها حركة احتجاجية تدعو إلى الديمقراطية"، موضحا أن الحركة جادة في الاستفادة من أخطائها. وقال في السياق ذاته، "علينا أن نتحلى بالشجاعة للاعتراف بأخطائنا في فترة الحكم"، معتبرا النقد الذاتي والمؤسسي شرطا من شروط الحداثة"، مجددا التأكيد على التزام الحركة بنمط المجتمع الذي اختاره التونسيون وقامت من أجله الثورة. وأبرز التزام الحركة بالنأي بالدين عن المعارك السياسية، وتحييد المساجد حتى تكون جامعة لا مفرقة، وأقرَّ بحاجة البلاد إلى طبقة من العلماء حتى تشهد للإسلام الوسطي وتدحض التطرف باسم الإسلام الذي تنتهجه الحركات المتشددة والتكفيرية. مصالحة وطنية أكد الغنوشي في افتتاح المؤتمر العاشر للحركة أن حل الأزمة في الشرق الأوسط يتطلب "المصالحات بين الفقراء والأغنياء، بين الشمال والجنوب، بين الثقافات والحضارات والأديان، فالعالم محتاج للتعارف والسلم والتضامن والأمن والتسامح، ولا يمكن إغفال الحاجة إلى مصالحة وطنية شاملة، تمنع توريث الأحقاد، وبناء مشروع وطني يتطلع إلى المستقبل، وإيجاد شراكة حقيقية بين كل القوى الوطنية والسياسية في البلاد تحت سقف الوطن والدستور، وإلى توسيع دائرة التوافق. فالدولة العصرية لم تعد تدار بالإيديولوجيات، بل من خلال البرامج والحلول الاقتصادية". ودعا إلى الانتقال لمرحلة التفكير لإيجاد حلول للمشاكل الاقتصادية وإلى نهضة اقتصادية حقيقية تضمن سبل العيش الكريم للمواطن، وتعالج القضايا الملحة، وإيجاد فرص العمل والتنمية العادلة ومقاومة الإرهاب. إنقاذ البلاد اعتبر الغنوشي أن مواجهة قضية البطالة لا تكون إلا في إطار منوال اقتصادي أساسه الاستثمار في الثروة، وفي المبادرة الخاصة، وتفعيل مبدأ التمييز الإيجابي بدعم حق الجهات في جزء من ثرواتها الطبيعية لتحقيق التنمية. ودعا في هذا السياق إلى تجاوز التعقيدات الإدارية التي تعد من أكبر العراقيل لتطوير الاستثمار، مقترحا إنشاء وزارة كبرى تعنى بالاقتصاد تنفذ خطة استراتيجية عامة وواضحة للارتقاء بنسبة النمو الاقتصادي، مجددا الدعوة إلى هدنة اجتماعية بين كل الأطراف من أجل إعادة العجلة الاقتصادية إلى مسارها الصحيح. وفي المجال الاجتماعي، دعا راشد الغنوشي إلى عقد وطني للنهوض بالشباب يطرح حلولا حقيقية للمشاكل التي تواجهها هذه الفئة، ويبني استراتيجية مستقبلية للنهوض بأوضاعهم، معتبرا في هذا السياق أن التعليم هو رأسمال كل التونسيين، وأن المجموعة الوطنية مطالبة برؤية وطنية لإصلاح التعليم، الذي قال إنه "لا يجب أن يكون في قطيعة مع سوق العمل". التكيف مع الواقع برر سياسيون تونسيون أسباب التغير في تفكير قادة حركة النهضة إلى التغيرات الكبيرة في المشهد السياسي التونسي، مشيرين إلى أن الحركة ربما تكون أدركت هذا الواقع، وتريد التكيف معه، بما يضمن بقاءها ضمن خارطة الأحزاب المؤثرة. وأضافوا أنه رغم التسليم بأن نهضة ما بعد المؤتمر قد تكون أكثر مرونة في ممارسة النشاط السياسي، إلا أنهم يستبعدون أن تتقاطع تماما مع مرجعيتها، في ظل تنظيم يغلب عليه الولاء العقائدي أكثر من الولاء السياسي. وأضافوا أن الحزب صدم خلال فترة حكمه تونس عامي 2012 و2013 بمؤسسات دولة مدنية قوية، بدت عصية عن مشروع الأسلمة ولم تقد سوى إلى الفشل ثم التنحي عن الحكم. واستدركوا بتوقع أن تدفع الضغوط الداخلية والخارجية بالحزب إلى الانزلاق شيئا فشيئا باتجاه تغليب البراجماتية السياسية على الخلفية العقائدية، التي تسببت في وصوله إلى حالة من الانطوائية والتقوقع. وأن الغنوشي تحسس جيدا انهيار تنظيم الإخوان في المنطقة العربية، لذلك سيسعى خلال فترة رئاسته الأخيرة إلى بناء حزب سياسي ذي طابع إسلامي، مستعينا بما يسميه "الإسلام الديمقراطي" في مواجهة الفكر المتشدد. لافتات سياسية يؤكد بعض خصوم النهضة أن ما يحاول الغنوشي تصويره على أنه توجه جديد لحزب النهضة، ما هو إلا "استبدال لافتات"، فقط لا غير، مشيرين إلى أنه يريد قيادة النهضة من "الإسلام السياسي" إلى "السياسة الإسلامية"، وأن الإعلان الأخير "لن يجرّد الحركة من هويتها الإسلامية، أو من طبيعة تنظيمها الذي يرتهن إلى سطوة عقائدية من الصعب التخلي عنها بمجرد الإعلان". وأضافوا أن الضغوط التي مارستها القوى العلمانية داخليا، وفشل رهان قوى إقليمية ودولية على الإخوان، دفعا بالغنوشي إلى قرار يقضي بقيادة النهضة من جماعة تنتمي لجماعات الإسلام السياسي، إلى حزب يراهن على السياسة الإسلامية. واستدلوا على ذلك بتعبير الغنوشي في افتتاح أعمال المؤتمر عن استغرابه من "إصرار البعض على إقصاء الدين من الحياة الوطنية"، إضافة إلى تشديد القيادات على أن الحركة لن تتخلى عن هويتها. مرحلة جديدة أكد رئيس مجلس شورى حركة النهضة، فتحي العيادي، أن مؤتمر النهضة العاشر هو اليوم محط أنظار كل التونسيين والعالم، مشيرا إلى انتقال تفكير حزبه نحو جمع التونسيين على قواسم مشتركة، تجمع ولا تفرق، وأضاف "تفكيرنا اتجه نحو إيجاد تونس التوافق، ومسيرة الإصلاح مستمرة، ونعمل على ضمان نجاح تجربة تونس في الانتقال الديمقراطي". مشيرا إلى أن الجانب الدعوي المفصول عن العمل السياسي، كانت الحركة تقوم به من خلال المكتب الدعوي الذي يقوم بتنظيم الدروس، والمحاضرات، والخطب، وتكوين الدعاة، وتأثيث الفضاء المسجدي وإحياء المناسبات الدينية، وسيمارس أنصار النهضة العمل الدعوي خارج الحزب في أطر أخرى كجمعيات المجتمع المدني. توجيهات رئاسية قال الرئيس التونسي في خطاب افتتاح المؤتمر "نأمل أن تتوصلوا من خلال أعمالكم إلى التأكيد على أن النهضة أصبحت حزبا مدنيا تونسيا، قلبا وقالبا، ولاؤه لتونس وحدها، وأتطلع أن يكون المشروع السياسي للنهضة بعد إقرار المراجعات التي تم الإعلان عنها، منسجما كل الانسجام مع السياق الوطني العام، مستجيبا لرغبات الشعب التونسي". وواصل الرئيس السبسي قائلا "النهضة حزب وطني ومدني، قلبا وقالبا، ولا يشكل خطرا على الديمقراطية. وأتطلع إلى أن يكون المشروع السياسي للنهضة، ضمن إطار السياق الوطني العام الذي تشهده تونس اليوم". ودعا السبسي كافة التونسيين إلى فتح صفحة جديدة، عنوانها إعلان الشأن القومي، وتغليب مصلحة البلاد على ما سواها، وعدم التركيز على مجرد تحقيق مكاسب سياسية، مشيرا إلى أن المرحلة التي تمر بها تونس، والتحديات الاقتصادية والاجتماعية التي تواجهها، تتطلب توحيد الجهود والتضامن. حرب صامتة كشف الباحث في مسائل الحضارة الإسلامية، المحلل السياسي مختار الخلفاوي، أن التوجه الجديد الذي أعلن عنه زعيم حزب النهضة التونسية، راشد الغنوشي خلال المؤتمر العام العاشر للحزب، لا يحظى بالدعم الكامل داخل الحركة، مشيرا إلى أن هناك "حربا صامتة" تدور بين أنصار رئيس الحركة وآخرين، وأضاف أن المرجعية الإيديولوجية للحركة تعتمد على الجانب الدعوي، وفصلها عن الجانب السياسي فيه تنازل عن جانب كبير من هويتها ومجال نشاطها. وتوقع الخلفاوي أن تظهر خلال الفترة المقبلة بعض الأصوات التي تعارض هذا التوجه، وهم من يطلق عليهم مصطلح "صقور الحزب"، في مواجهة الذين يسمون "الحمائم"، الذين يؤيدون الانفتاح على المجتمع، وتلمس احتياجاته، وضرورة إحداث تغيير جوهري، مؤكدين أن من شأن تلك الخطوة أن تزيد شعبية الحزب، وتسمح باستقطاب عضوية جديدة، لا سيما في أوساط الشباب وقطاع المرأة. خلافات داخلية أشارت مصادر داخل الحزب إلى وجود خلافات عميقة بين عدد من القيادات، في إطار الصراع الذي يؤكد مقربون من مصادر صنع القرار في الحركة وجوده، على خلفية الحديث عن قرب اختيار خليفة لزعيم الحزب التاريخي، راشد الغنوشي. واستدلت المصادر بغياب عدد من القيادات المرموقة عن المؤتمر العاشر للحركة، وانتخاب علي العريض، المحسوب على الجناح المتشدد داخل الحزب، رئيسا للمؤتمر، حيث لم يحصل إلا على 678 صوتا من أصل 1098، صوتا وذلك على حساب رئيس كتلة الحركة بالبرلمان، نورالدين البحيري. مما يشير إلى أن الجناح المتشدد نجح في قطع الطريق على الآخر المنفتح داخل الحركة. كما أثار غياب بعض القيادات، أمثال سمير ديلو الذي يصفه البعض بأنه "الواجهة السياسية والإعلامية للنهضة"، كثيرا من التساؤلات، لا سيما أن المؤتمر يعد أهم حدث تشهده النهضة، مما فتح الباب أمام تسريب أنباء عن وجود خلافات عميقة بين جناحي الحزب، حول تركيبة القيادة المرتقبة التي يراهن عليها الجيل الثاني الأكثر انفتاحا لقيادة نهضة سياسية خلال السنوات المقبلة تمهيدا لخلافة الغنوشي.