ذهبت مع صديق قديم، كان بمرتبة "مدير عام" قبل تقاعده، من أجل كفالته لدى شرائه سيارة مستأجرة تنتهي بالتمليك. الموظف المتأنق خلف طاولته، سألني ما هو عملك، قلت مهندس، مستشار في أمانة جدة، عضو هيئة تطوير المنطقة. فرد الموظف بابتسامة عريضة، كيف لا، وقد وجد فيّ كفيلا مقتدراً. "ما شاء الله"، أجابني، ليضيف متسائلا، وأين تعمل الآن، أجبت وأنا ابتسم متشبهاً بابتسامته المتفائلة، "متقاعد". عندها رفع رأسه مستنكراً، قائلا "آسف، لا تنطبق عليك شروط الكفالة". هكذا خرجنا أنا والمدير العام نجر أذيال الخيبة، حيث أثبت الموظف الهمام، أننا لسنا أكفاء لتحمل مسؤولية، ألف ريال شهرياً!. السعادة والكرامة! هذه قصة من عشرات القصص التي رواها المتقاعدون، وهم يتحلقون حول رئيس مجلس إدارة الجمعية الوطنية للمتقاعدين، الفريق الطيار الركن عبدالعزيز بن محمد هنيدي، وهو يقرأ عليهم ما تيسر من أحلام جمعيتهم، التي اختصرها في كلمتين "السعادة والكرامة". أما كيف تتحقق السعادة والكرامة للمتقاعدين، فهذه قضية أخرى، تحتاج إلى نضال وصبر وإصرار، كما عبر عن ذلك رئيس مجلس إدارة الجمعية، في ندوة عقدت مطلع مايو الجاري، تحت عنوان "المتقاعدون الواقع والمأمول"، في أحدية "مركز الشرق الأوسط للدراسات الاستراتيجية"، في منزل الدكتور أنور بن ماجد عشقي، وهي ليست أول مرة تعقد فيها ندوة تخص المتقاعدين تحت هذا العنوان، فعلى ما يبدو أن الأمل في حياة المتقاعدين شيء يشبه "الغول"، تسمع به ولا تراه!. توصيات منتظرة أما التوصيات التي جاءت في 10 بنود، فهي تلخص هموم المتقاعدين والتحديات التي يواجهونها في حياتهم، بدءاً من اليوم الأخير في الوظيفة. ويمكن تلخيصها كالتالي: المطالبة بمشاركة إدارية في مجلسي إدارة المؤسسة العامة للتقاعد والمؤسسة العامة للتأمينات الاجتماعية، حد أدنى للأجور، قروض ميسرة، قروض للسكن، تخفيضات على تذاكر السفر، التأمين الصحي، إقامة أندية وحدائق، قاعدة معلومات للمتقاعدين، توفير مصدر دعم مالي للجمعية الوطنية للمتقاعدين. وهذه التوصيات هي نفسها التي تحدث عنها الفريق "هنيدي" في الندوة الأخيرة، مختتماً ورقته بالقول بأنها رفعت إلى الجهات المعنية. منجِزون أم أموات؟ لأن المجتمع انتهى إلى اعتبار أن "المتقاعد" ميت بالضرورة، فقد شق الكلمة إلى اثنتين، فابتكر مصطلحاً جديداً يحيل إلى الموت "مُت قاعد"، وهي الكلمة المتداولة في الوسط الاجتماعي، وباستخدام فعل الأمر القاسي النبرة، حيث يأمر ببلاغة فجة، من ينتهي عمره الوظيفي، بأن يرقد في بيته بانتظار الموت. هناك ألم أخر يتم السكوت عنه وتجاوزه، ففي سنوات الموظف الأخيرة، حين يبدأ بصعود درج الخامسة والخمسين، ينظر إليه كشخص على وشك الموت، وأنه يحتضر، وتقبع النسور حوله بانتظار أن يلفظ أنفاسه الأخيرة، لتنقض عليه وتمزيق جسده. هذا الإحساس الذي لا يتحدث عن المتقاعدون كثيراً، يشعرون أمامه بالعجز، وهم يسمعون نداءات وسائل الإعلام وهي تطالبهم بالاستعجال بالرحيل، من أجل توفير فرصة عمل للجيل الجديد، لكنه بما أن الرحيل يعني الموت، فإن الشعور يتعاظم، ليغدو وكأنه نداء للموت!. نريد أن نغير هذه النظرة، يقول الفريق هنيدي، من خلال ضمان السعادة والكرامة للمتقاعدين، ولذلك أطلق عليهم اسم "العائدين"، وهو بذلك يعني السعادة وتوفير ما يكفي من المال للمتقاعد، ليعيش دون أن يشعر بالحاجة، وذلك برفع الحد الأدنى للرواتب إلى 4 آلاف ريال، وهو المبلغ المتواضع الذي بالكاد يسد الاحتياجات الأساسية للمتقاعد، فكيف إذا علمنا أن بعضهم يتقاضى راتباً لا يزيد عن 2000 ريال، حينها سندرك مدى المحنة التي يعيشون فيها!. مطالب بالمشاركة تأسست "الجمعية الوطنية للمتقاعدين" عام 2005، وانتخبت اللجنة المؤسسة وعدد أعضائها 35 عضواً، انتخبت لمجلس الإدارة سبعة أعضاء، في مقدمهم الدكتور عبدالرحمن الطيب الأنصاري. وجاء في أهداف التأسيس "الاهتمام بالحاجات المادية، والصحية، والاجتماعية، والثقافية، والترفيهية، للمتقاعدين". وقدر عدد المتقاعدين عند التأسيس بحوالي 700 ألف رجل وامرأة، 40 بالمائة منهم لم تتجاوز أعمارهم 50 عاماً، و30 بالمائة هم بين الثلاثين والأربعين من أعمارهم. وأظهرت دراسة صدرت عن "معهد الإدارة العامة" في العام نفسه، أن 88% ممن استطلعت آراؤهم، قالوا إن راتبهم التقاعدي لا يكفيهم، في حين قال 73 بالمائة من العينة التي طبق عليها البحث، أن خدمات "المؤسسة العامة للتقاعد" تنحصر في صرف رواتب المعاشات الشهرية للمتقاعدين، وطالب 77% منهم بحق المشاركة في رسم السياسة الإدارية والاستثمارية للمؤسسة العامة للتقاعد. ولم يتحدث الفريق هنيدي أو ممن شاركوا في الندوة إلا عن تحسن طفيف في مجال تحسن أوضاع المتقاعدين خلال السنوات الخمس الماضية، لكنهم تحدثوا على رؤى مستقبلية، يراهنون فيها على "مجلس الشورى"، والذي يقوم بين الحين والآخر بطرح قضيتهم للنقاش.