"يمكن سجن مُصدر الشيك في حال عدم الصرف لأي مبلغ كان، حتى لو كان ريالاً واحداً فقط". هذا ما قاله، بوضوح وببساطة، ل "الوطن" مدير عام الشركة السعودية للمعلومات الائتمانية "سمة" الائتمانية نبيل المبارك. ولم يكن المبارك يتحدّث وحده، بل كان كلامه "الكبير" تعليقاً على خبر نشرته "الوطن" في عدد السبت الماضي عن سجن مواطن في الأحساء بسبب شيكين مرتجعين قيمتهما 6 آلاف ريال لا غير. العبرة ليست في حجم المبلغ؛ بل في "الجرم" المالي الذي يتورّط فيه الساحب. وخلاصة القصة هي أن الشيك "المرتجع" لم يعد لعبة بيد النصّابين والمتساهلين والمتهاونين. أصبحت اللعبة خطرة جداً، والأنظمة التي بدأ تطبيقها منذ ال 24 من شهر شعبان الماضي تؤسس واقعاً جديداً ومختلفاً في تاريخ "الشيك السعودي" الذي كان يشكّل أزمة من أزمات السوق المصرفي الوطني بشكل عام، وجزءاً من أرق التعاملات التجارية. وحتى ما قبل ذلك التاريخ كان الشيك "المصدّق" هو الحماية المالية الوحيدة ذات الموثوقية في السوق. وما عدا ذلك؛ فإن أيّ أحد كان يستطيع أن يجر قلمه على دفتر شيكاته ليحرر ما يشاء، لمن يشاء، في التاريخ الذي يشاء، سواء كان الرصيد قادراً على الدفع، أم غير قادر. تراكم ملياري ونتيجة للوضع السابق؛ تراكمت المليارات بعضها فوق بعض، في عشرات الآلاف من الشيكات المرتجعة سنوياً، ووصلت أسقفاً عالية بلغت عام 2009 وحده 14 مليار ريال في 160 ألف شيك، 76% منها المرتجعة صدرت عن شركات ومؤسسات، في حين صدر 24% من الشيكات عن أفراد. وطبقاً للشركة السعودية للمعلومات الائتمانية فقد بلغ متوسط قيمة الشيك المرتجع 87.5 مليون ريال. أما العام الحالي 2010؛ فقد بلغ عدد الشيكات المرتجعة خلال الربع الثاني وحده 10 آلاف و 800 شيك من الأفراد بقيمة مليار و 123 مليون ريال، و من الشركات 18 ألفاً و 800 شيك بقيمة مليار و 600 مليون ريال. ومثل هذه الأرقام يُمكن أن تشلّ نظام المدفوعات في السوق، وتدمّر موثوقية الشيك في المصارف الوطنية بشكل مطلق، وتراكم مديونات هائلة بإمكانها أن تحرّك الكثير في الاقتصاد السعودي. ومن هنا فإن قصة الشيكات المرتجعة تبقى ظاهرة انتقلت من تصرفات قام بها البعض تهرباً من الالتزام بما ترتب عليهم من مستحقات، إلى مشكلة تمسّ مصداقية النظام المالي ذاته و القطاع المصرفي الذي بات على المحك جراء هذه الظاهرة التي أدت إلى رفض كثير من المؤسسات استقبال الشيكات ما لم تكن مصدّقة. سجل ائتماني سلبي لكن الوضع بدأ يتغير لصالح "هيبة الشيك" السعودي، وكشف مدير عام الشركة السعودية للمعلومات الائتمانية "سمة" نبيل المبارك عن أن الشيكات المرتجعة سجلت خلال سبتمبر الماضي ما يقارب 70% مقارنة بنفس الفترة من العام الماضي، وتوقع أن تصل إلى 90% في نهاية العام الجاري مقارنة بالعام الماضي 2009، ترتيباً على الإجراءات الصارمة الجديدة. وقال المبارك ل" الوطن" إن الشيك المرتجع مهما كانت قيمته يخضع لنظام "الشيكات بدون رصيد" الذي أقره مجلس الوزراء قبل شهور، كما أن أي شخص يصدر شيكاً مرتجعاً يمكن أن تصدر في حقه "ورقة اعتراض" من البنك للطرف المتضرر، وهذا بدوره يضع الشخص الساحب آلياً في بيانات السجل الائتماني الخاص على نحو سلبي. وأضاف المبارك أنه وبمجرد أن يصل ل "سمة" إخطار من البنك بهذا الخصوص، يتم وضع الساحب في السجل الائتماني ويصنف ب "عالي المخاطر" وتبقى هذه المعلومة في سجله الائتماني لمدة 5 سنوات حتى بعد قيام مصدر الشيك بتسديد المبلغ، بالإضافة إلى العقوبة القانونية الصادرة من نظام الأوراق التجارية وهي السجن لمدة 3 سنوات وتغريمه 50 ألف ريال، ويمكن مضاعفة العقوبة بتكرار الجريمة عن كل شيك بدون رصيد، على حدة. وأشار المبارك إلى أن الشركات تشكل النسبة الكبرى في إصدار الشيكات بدون رصيد مقارنة بالأفراد، مما يدل على أن معظم الشركات ما زالت مستمرة في إصدار شيكات مرتجعة رغم تطبيق النظام. وقضية الشيك بدون رصيد يعكس مهنية القطاع التجاري بالمملكة وما مدى التزامه بالنظام وخصوصاً أن المملكة عضوة في منتدى العشرين. وذكر المبارك أن ظاهرة الشيكات المرتجعة، وغيرها من الظواهر المصاحبة، أتاحت فرصة للمتعثرين والمتلاعبين بالبقاء في السوق على حساب الفئات الأكثر مصداقية وعطاء وإيجابية، وما ينطوي تحت ذلك من حالات وخسائر قد تطال النظام المالي في السوق المحلية، الذي يدخل في معركة المصداقية، في ظل معطيات العولمة والتجارة العالمية وانسياب السلع ورؤوس الأموال بين الدول والحكومات بعضها بعضاً. الساحبون يحذرون وأظهرت تقارير سمة بحسب العدد الثالث من إصدارها انخفاضاً إجمالياً في عدد الشيكات المرتجعة للأفراد بنهاية الربع الثاني من العام الحالي مقارنة بالفترة المقابلة من العام الماضي. وانخفض إجمالي عدد الشيكات المرتجعة للأفراد من أكثر من 18.7 ألف شيك في نهاية الربع الثاني من عام 2009م إلى أكثر من 10.8ألف شيك في نهاية الربع الثاني من عام 2010م، مسجلة انخفاضاً كبيراً نسبته 42%. كما انخفض إجمالي قيمة الشيكات المرتجعة للأفراد بنسبة 40% بنهاية الربع الثاني من العام الجاري مقارنة بنهاية الربع الثاني من العام الماضي. حيث انخفض إجمالي قيمة الشيكات المرتجعة من حوالي 2.065 مليار ريال في نهاية الربع الثاني من عام 2009 م إلى أكثر من 1.230 مليار ريال في نهاية الربع الثاني من العام الجاري. ولفتت الإحصائية إلى وجود تطور آخر في الأرقام الحديثة يكمن في تراجع قيمة الشيكات المرتجعة للشركات بنسبة كبيرة بلغت 58% في نهاية الربع الثاني من العام الجاري مقارنة بنهاية الربع الثاني من عام 2009م. حيث تراجع إجمالي قيمة الشيكات المرتجعة للشركات أكثر من 4 مليارات ريال في نهاية الربع الثاني من عام 2009م إلى قرابة 1.6 مليار ريال في نهاية الربع الثاني من عام 2010م. فيما سجل إجمالي عدد الشيكات المرتجعة للشركات انخفاضاً في نهاية الربع الثاني من العام الجاري بنسبة 11%، وانخفض إجمالي عدد الشيكات المرتجعة من 21.1 ألف شيك في نهاية الربع الثاني من العام الماضي إلى نحو 18.8 ألف شيك في نهاية الربع الثاني من العام الجاري. جرائم الشيكات التنظيمات الجديدة التي أضيفت إلى نظام الأوراق التجارية وبدأ تطبيقها منذ 24 شعبان الماضي كفلت كامل الحقوق لمستفيد الشيك، خاصة بعد تصنيفها ضمن التهم التي توجب التوقيف في حق مصدر الشيك بدون رصيد. هذا ما يراه المتعاملون مع مشاكل السوق.. ومن بينهم المحامي حميد الشمري الذي يقول إن التنظيم الجديد يبدأ من قيام مستفيد الشيك بإحضار ورقة اعتراض من البنك تبين سبب رفض صرف الشيك. هذه هي الخطوة الأولى التي تليها خطوة تقديم الشيك المرتجع إلى مركز الشرطة الذي يقوم بتسجيل دعوى ضد مصدر الشيك، وفي حال وجود أدلة يحال المتهم موقوفاً إلى هيئة التحقيق والادعاء العام، التي تقوم الهيئة بالترافع للحق العام بجانب الدعوة الخاصة أمام لجنة المنازعات بوزارة التجارة والصناعة. ويذكر الشمري أن الشكوى تتضمن أطراف الشيك الثلاثة المقررة في نظام الأوراق التجارية وهم الساحب والمستفيد والبنك، وتتمثل جرائم الساحب في سحب شيك ليس له وفاء قائم وقابل للسحب، وجريمة سحب شيك بدون تاريخ أو بتاريخ غير صحيح، وجريمة سحب شيك على غير بنك. كما تتمثل جرائم المستفيد في جريمة تلقي شيك لا يوجد له مقابل وفاء، جريمة تظهير شيك لا يوجد له مقابل وفاء، جريمة قبول شيك بدون تاريخ على سبيل المقاصة. وتتمثل جرائم البنك بجريمة رفض الوفاء بشيك مسحوب سحباً صحيحاً ، جريمة التصريح بوجود مقابل وفاء أقل من الموجود فعلاً ، جريمة الوفاء بشيك خال من التاريخ. ويوضح الشمري أن التنظيمات الجديدة تعتبر خطوة مهمة في طريق إعادة الهيبة إلى الشيك كأداة وفاء تمثل أمر دفع نقدي، بالإضافة إلى أنها ستعزز الثقة بين المتعاملين والتجار في المملكة، خاصة أن الشيك كان يستخدم في السابق لغرض الضمان فقط في المعاملات التجارية، وليس للوفاء بها، بالإضافة إلى غياب العقوبات الرادعة ضد مصدري الشيكات بدون رصيد إذ كانت البنوك تعيد مئات آلاف من الشيكات بدون رصيد سنويا لحامليها بسبب عدم كفاية الرصيد. انعدام الثقة المضمون ذاته يشدد عليه أستاذ المالية والاقتصاد الدكتور على العلق الذي يؤكد أن الشيك أداة للدفع وينبغي أن تكون هذه الأداة موضع ثقة في الوسط الاقتصادي، وفي التبادل المالي، فإذا كانت هناك ظاهرة للشيكات المرتجعة فهذا يؤثر في طريقة الدفع. يضيف العلق: الشيكات في الغالب يتم الاعتماد عليها في الأسواق المحلية في تبادل المبالغ الكبيرة، بينما المبالغ الصغيرة فيتم تبادلها عن طريق الصرف المباشر، أو عن طريق أجهزة الصرف الآلي، أو عن طريق البطاقات الائتمانية، ولأن هناك ظاهرة شيكات مرتجعة، لذلك هناك من يشترط توفير الشيك المصدق، أي إن الشيك غير المصدق لم يعد في موضع الثقة، وهذا له تأثيره الكبير في التعامل بالشيكات، ولذلك تراجع التعامل بالشيكات، وصار محدوداً للغاية، وتضاءلت المبالغ المستخدمة من خلال الشيك والسبب هو التحفظ. ويؤكد العلق أهمية الضوابط التي تنظم عملية التبادل بالشيك وإعادة الثقة، وينبغي أن يعتبر صرف شيك بدون رصيد جريمة، كما هو الحال في العديد بل في معظم دول العالم، حيث يؤثر هذا التعامل في الثقة في استخدامات الشيك .لأن اهتزاز الثقة بالشيك يعني اهتزاز الثقة بالنظام المصرفي ككل. أما شيوع هذا الظاهرة فيرجع - حسب الدكتور العلق إلى أن بعض المواطنين لديهم نمط استهلاكي معين، أي إنهم يرغبون في العيش في مستوى لا يتلاءم وقدراتهم المادية، فيضطرون لكتابة الشيكات بدون رصيد فيقعون في إشكالات عديدة من هذا الجانب. ضياع أموال الناس المحلل الاقتصادي والمالي فضل البوعينين يوضح أن أولى سلبيات شيوع ظاهرة الشيك بدون رصيد هو ضياع أموال الناس بالباطل. والأخرى انعدام الثقة في الشيك وهو أمر ينعكس على الثقة في النظام المصرفي بالكامل.. لأن احترام الشيك وقانونيته يُستمدان من ثقة الناس في التعامل مع القطاع المصرفي، فمتى اهتزت هذه الثقة بالشيك انعكس ذلك على القطاع المصرفي الذي يصدر منه الشيك، وبموجبه يتم الدفع واستلام الأموال من خلاله، لذا تجد أن هناك العديد من القطاعات ترفض التعامل مع الشيك إلا إذا كان مصدّقا. ويضيف البوعينين أن أي مستثمر يفد إلى البلاد فهو يعتقد أنه يتعامل مع قطاع مصرفي عن طريق الشيكات، وعندما يفاجأ بأن هذا الشيك بات مصدر ريبة وشك حينها تبدأ صورة القطاع المصرفي والاقتصادي والمالي تهتز، فتبدأ إعادة الحسابات داخل القطاع التجاري. ويرجع البوعينين سبب شيوع هذه الظاهرة إلى أن عدم تطبيق القوانين الصارمة بحق كل من يصدر شيكا بدون رصيد قد أدى إلى تفاقم المشكلة وتحولها إلى ظاهرة تهدد القطاع التجاري والمالي، وحينما تكون هناك ثقة بالشيكات، وأن التعامل السلبي مع الشيكات يعد جريمة يعاقب عليها القانون فإن من يصدر الشيكات يتأكد من كافة فنيات الشيك كالتاريخ والتوقيع، حتى لا يفهم أنه تعمد في إصدار شيك بدون رصيد بغية تأجيل الدفع. وأشار إلى أن من الأخطاء الموجودة والتي تسبب شيوع ظاهرة الشيكات بدون رصيد استخدام الشيك بدلا عن الكمبيالة، حيث تقوم شركات التقسيط مثلا بفرض التوقيع على عدد كبير من الشيكات ينتهي بمجرد انتهائه، فيكون الدافع قد قام بصرف عدد من الشيكات وهو لا يدري هل سوف يستمر وضعه المادي كما هو عليه.