"ليست البلد هي البلد"، عبارة تم استعارتها لأحد المارة الذي ظل مشدوها وواقفا أمام فاترينة "حائط زجاجي" لدقائق معدودات يحدث نفسه.. ذاك مسحراتي الحارة، وهذا بيت نور ولي الشهير، وتلك رواشين حارات جدة العتيقة، ليقرر بعدها الدخول للمكان ويأخذ حظه كما أخذ غيره تذكارات يشاهدها للمرة الأولى تختصر سبعة عقود من تراث المنطقة التاريخية بجدة. على الرغم من عدم تحول السياحة في المملكة إلى صناعة توازي ما يحدث في بعض المدن العربية والعالمية، إلا أن محلا لا تتجاوز مساحته بضعة أمتار استطاع إعادة هوية المكان عبر ما يعرف ب"سياحة التذكارات" التي تعد أحد الأذرع الثقافية والحضارية لتعزيز الهوية السياحية في ذهنية قاصديه من الزوار والمصطافين. ربما الجديد الذي أضافه "تذكار البلد" وبخاصة في هذه الأيام التي تشهد النسخة الثانية من فعاليات "رمضاننا كدا2"، يتمثل في بعديه "الثقافي والحضاري"، حيث استطاع نقل هوية المكان للعالم عبر "تذكارات" بسيطة، اختصرت آلاف كلمات الكتب التي أرّخت للمنطقة التاريخية، وربما جولات كثيرة قام بها المرشدون السياحيون، إلا أن الفارق بينهما أن تلك التذكارات كانت أسرع في تصدير ثقافة المنطقة لمن قصدها من الزائرين والمصطافين. 68 عاما على هدم سور المدينة القديمة، ورغم دخول المنطقة في منظومة التراث العالمي، إلا أن منصور الزامل الذي أصدر في يناير 2015 كتابه الأول "جدة التاريخية 1969.. بعيون جوزيف رورك"، استطاع أن يهندس معرفيا وتاريخيا تفاصيل المشهد الجداوي بجوانبه "الإنسانية والاجتماعية والثقافية والحضارية"، بأسلوب متقدم يوازي فيه الحركة السياحية والثقافية لبعض بلدان العالم ويزاحمهم فيها بذاكرة هوية "التاريخية". الزامل العاشق للبلد، استطاع تحقيق حلمه الذي راوده منذ 40 عاما وتحديدا منذ عام 1975، حينما لم يتجاوز ال13 عاما، حينما كان يتجول في الرحلات الخارجية، كانت تشده تذكارات الأماكن التي يزورها، ولكنه كان يتأمل إقبال السواح على اقتناء تلك التذكارات ويحدث نفسه كثيرا، و"ماذا عن جدة التاريخية، فهي تملك مخزونا هائلا من التراث والثقافة الإنسانية، فلم لا تكون لديها مثل التذكارات كباقي الأماكن الأثرية العالمية ؟". الزامل يعي تماما أن تطبيق مثل هذه المشاريع، لا يمكن أن تقوم من دون وجود أرضية تهيأ لذلك، باعتبارها تمزج ما بين ثلاثة مكونات رئيسة مهمة "السياحة والثقافة والحضارة"، وهو ما كان يشغل باله طوال تلك العقود. لكن حلم تحقيق "تذكار البلد" الذي لازم الرجل 40 عاما تحقق اليوم، واستغرق ذلك ثلاث سنوات تقريبا من الإعداد والتحضير المضني، سنتان منها تمحورت في نزول يومي للمنطقة التاريخية والتنقل بين أزقتها وحاراتها وأشهر بيوتها العتيقة، برفقة الرسامة السودانية "مواهب"، لتحويل تلك المشاهد والصور القديمة إلى رسومات ثلاثية الأبعاد "3D"، تمهيدا للمرحلة اللاحقة. لم يكتف الزامل وفريقه المكون من "مواهب" وأبنائه عبدالرحمن وعبدالعزيز وعبدالإله، بواقع المنطقة، التي صعقتها عوامل التعرية الطبيعية والبشرية بالمشاهد الحية، بل لجأ إلى بطون الكتب التي تحدث عن العادات والتقاليد، والألعاب الشعبية، بل حتى إلى الصور التاريخية التي قام بتصوير مشاهدها مصورون غربيون زاروا المكان في حقبة القرن الماضي وما قبله. يتنهد الزامل وهو يتحدث عن "تذكار البلد"، لكنه سرعان ما يعود إلى ما يشغل باله وهو إحياء المنطقة التاريخية، عبر سلسلة من المشاريع المتكاملة، فكانت وجهته لحلمه بعد تنفيذ الخطوة الأولى "سويسرا والسويد"، لتحويل الرسومات إلى نماذج عمل، ثم تبدأ المرحلة الثالثة من الصين التي مكث فيها 40 يوما تقريبا، لإعداد نماذج "تذكارات". الصين كانت حكاية أخرى في تفاصيل المشهد، التي بذل فيها الزامل جهدا مضنيا، من حيث الاطلاع على تجارب العمل لإخراجه بصورة شائقة ومتقنة، وهو ما تتطلب منه عرض عشرات مقاطع الفيديو لخبراء الشركات الصينية، ويقول عن ذلك "هدفي من ذلك التركيز على أدق تفاصيل العادات الاجتماعية، والرقصات الشعبية، بل حتى في طريقة رفع القدم أثناء رقصة المزمار الشهيرة، وطريقة اللبس وهي أهم مرحلة في العمل". حينما سألنا الزامل، هل تخشى من سرقة فكرتك؟، باعتبارها تطبق للمرة الأولى عن المنطقة التاريخية بجدة وفي المملكة بشكل عام، ابتسم وأجاب "أتمنى سرقتها، لكن لا أتمنى سرقة النموذج"، ولم يكتف بذلك بل طالب بوجود منافسين، وحجته في ذلك أن الرابح الأكبر من تلك "السرقة الحلال" هي المنطقة التاريخية، وطالب من ينافسه بأن يضيف نماذج جديدة، حتى يحصل التنوع الجميل.