"في البعيد جدا من ذاكرة جدي كان يوجد قبل المنزل عشيش وقبل العشيش خيمة ولو استرسل جدي في سبر أغوار القبل سنكون من أهل الكهف، ولكن بالغنا جدا في النوم فلم يرد لنا ذكر لا في كتابٍ مقدس ولا في إحصاء سكاني". هذه العبارة الكاشفة من رواية هنادي الشمري "صفيح" (مسعى للنشر والتوزيع، البحرين - 2014) تعبر عن الوجود في ذاكرة المكان والسقوط من قيده، ومن أوراقه في الوقت نفسه. تلك الأوراق التي تحدد الانتماء وترسم خارطة العلاقة وتعين حصتك انطلاقا من اعتراف الرحم بك؛ قطعة أصيلة جوهرية من الجسد.. أو قطعة مضافة طارئة عليه، وعندها تكون أنت "خارج الرحم" تعيش رعب الهامش وعذابه وشظف عيشه وسقوفه الواطئة؛ الوجود المؤجل والمترحل الذي لا قرار له ولا استقرار إلا مع الخطوة الأخيرة في القبر تضمن حصة أخيرة من المكان لكنها، يوما، لم تكن قادرة على إجبار الحياة أن تفتح يديها وتقول نعم لانتمائك إلى المكان، وترفع نير "البدون" عن الرقبة المسلوخة والمنطوية على عذاب التلفت وانتظار اعتراف الرحم. جاءت الرواية في حجمها الصغير - النوفيلا - الأقل من مائة صفحة، والمقسمة إلى أجزاء صغيرة، وكل جزء منها في متوسط أربع صفحات يعلوها اسم شهر من شهور السنة تعلن هوية المذكرات المكتوبة لبطلها ولفصول السنة المتعاقبة ودوامة التغير قبالة منطق الركود والسكون، مع فواصل شعرية أرادتها الكاتبة ترجيعا لمناخ كل جزء.. لقد جاءت الرواية في حجمها الصغير والمزدحم باللوحات والمحكيات المنمنمة وشظاياها المتلاحقة مشاكلة لما تتحدث عنه. السكن العشوائي والمتمدد بغير نظام في مساحات ضيقة مجبورة على حركة تطلب الفسحة إلى أعلى أو تلتهم فراغا وتستبدله ب"صفيح" يؤشر على الحكاية كلها بوجودها النافل والهامشي ونتوء الوجع، حيث تتناسل الأجيال في المكان نفسه؛ في علبة الكبريت ذات الغرفات المحدودة بطاقة استيعابية غير محدودة؛ هدر الإنسان بين بضعة أمتار مربعة تطبق على الروح قبل الجسد، وإن خرج من تلك الترسيمة الفادحة تلقفته الشوارع المريضة بأقفاصها المتعددة تحتوي البشر والحيوان "قفص داخل قفص، وهكذا إلى ما لا نهاية من عدد وحجم الأقفاص البشرية والفكرية، والوطن قفص كبير". ما يجري في المكان من صورة للضغط والانحشار في بقعة محدودة منه، وما يدور داخل ذات البطل من اضطراب كبير من انفعالاتٍ شتى وما يمارس عليه من ضغط الأسرة لاعتقال فكرة السفر والهجرة "أتحول إلى صحن في مطبخ أمي يسكب علي الجميع خوفهم من الخطوة التي أفكر بها". كل أولئك يجد صداه وانعكاسه في بنية الرواية بترجمةٍ إبداعية لفحها يطال الجسد خلية خلية. .. وفي سرد البطل لذاكرته وما يسكنها من علاقات عائلية وإنسانية، يعاين القارئ التماعاتٍ تفيض بالشعر حالة وكتابة، تنبئ عن ملمح بارز في الشخصية، تمر في الصفحة دون إقحام أو تعمل (الجد وعلاقتها بالصباح والليل ص 21؛ الأم وابتسامتها ص 27؛ الأب وصمته ص 35؛ البطل وصلته بالإله ص 80؛ ...) باستثناء حديث البطل عن حبيبته وزوجته "إيمان" ص 51 فقد كان حديثا إنشائيا وجدانيا تتخلى عنه الحالة الشعرية. كما أنني تمنيت على الكاتبة لو أنها اكتفت بالطاقة الشعرية المبثوثة في الأجزاء، وحذفت الفواصل الشعرية بين تلك الأجزاء التي تتبدى باهتة قياسا إلى النماذج التي أشرنا إليها. *قاص سعودي