ليست مصادفة أن نجد مدينة تحمل في كل تفاصيلها ملامح إنسان، تختصره بعناية فائقة وتتحدث عنه بإسهاب دون ملل. مدينة تدفن في أعماقها كل الماضي، أسرار الناس وهمومهم وعرقهم المالح كما كان يفعل عاشقها. بعد كل هذا العمر الممتد من البحر إلى البحر ما زالت تقف كطفلة سمراء عند أولى اللحظات وكأنها تنتظر عودة "الحكواتي" الذي كان يأتيها بحكايات البحر وبخور الأزقة ومواويل الأشرعة القادمة من سفر بعيد. المدن المزدحمة بالتعب ذاكرتها هشة، يصيبها النسيان سريعا عدا "جدة"، لأن أيامها منقوشة على ذراع عمدتها محمد صادق دياب. لم يغيبه النسيان ولم يستطع اقتلاعه، لأن مدينته تسامره كل مساء، وترويه للقادمين إليها، وتعلقه قنديلا على بوابتها. "الدياب" الذي كان يحمل مدينته حيثما ارتحل حتى كانت علامته الفارقة التي يعرف بها وتعرف به ظل وفيا لها حتى آخر يوم في حياته. إنه قدر ذلك الرجل الذي عاش بين مدينة وبحر أن يكون عنوانا لكل الوجوه بينما هو عنوانه مدينة عتيقة وأربع نساء. الذين اقتربوا منه تشربوا بساطته وإنسانيته العميقة التي لم تخلق صدفة، بل هي نتاج علاقة اكتسبها ذلك "الجداوي" الأصيل من قلوب الناس واختلاطه بيومياتهم التي طالما دونها وتغنى بها. المتأمل لملامح "الدياب" يشعر بارتياح يسكنه، وجهه الهادئ يعكس تلك الروح الشفافة التي يحملها داخله. عينان فيهما مسحة من شجن مكتسب عن حياة لم تكن سهلة لطفل عاش في بيت أسرة عائلها بحار كلما خرج بحثا عن لقمة عيش فرد شراعه وغنى مواله وعيناه لا تفارقان الشاطئ. في حديثه تناغم سلس وفي صمته تأمل وزهد وفي لهجته البيضاء ابن حارة أنيق مركبه الصغير يتسع للجميع. في مثل هذا اليوم قبل أربع سنوات رحل وما زال في ذاكرته الكثير ليرويه، استدار وكأنه يعلم أنه الغروب الأخير. كان يقول دائما إنه عائد، وكان محقا في عودته، ترجل في ذلك الموعد وعاد أبيض كما هو. إنه الغياب "الرابع" يا سيدي ونحن نأتي إليك في كل موعد فرح، نطرق عليك الوقت لتخرج إلينا مبتسما كسحابة صافية جاد بها الربيع. الغياب يا سيدي لا يهزم من كان سبيلا للقلوب، لا يطوق غير الذاكرة التي لم تصنع منك بوصلة تهتدي بها، رحمك الله يا عمدة القلوب، يا أبا البنات سلام عليك وأنت فينا.