شدد المدير العام لمؤسسة الفكر العربي الدكتور هنري العويط على الجهد الذي تبذله مؤسسة الفكر العربي للنهوض بلغة الضاد، ومعرفة القيمين على المؤسسة حق المعرفة، أن العربيةَ الفصحى تكاد تكون اليوم غريبة عن اهتمامات الحياة اليومية التي تعبر عنها العاميات، ومنقطعة عن حقول النشاطات العلمية التي تستخدم فيها اللغات الأجنبية. ولكننا بخلاف المتباكين والناعين، لا نرى في هذه الصعوبات والتحديات تبريرا للانكفاء أو الاستسلام، بل دعوة إلى التصدي لها بوعي، ومسؤولية، إيمانا منا بأنها ليست قدرا محتوما بل فرصا متاحة، وبأنها حوافز لا معوقات. جاء ذلك خلال احتفالية الهيئة الاستشارية الدولية لتنمية الثقافة العربية "أرابيا"، أخيرا في مقر منظمة اليونيسكو في باريس، برعاية برنامج الأمير سلطان بن عبدالعزيز لدعم اللغة العربية في اليونيسكو. وتحدث العويط حول دور "اللغة العربية بين الهوية الثقافية والقرار السياسي"، منوها بالقرار التاريخي للمجلس التنفيذي لليونيسكو، القاضي بتكريس يوم 18 ديسمبر يوما عالميا للغة العربية، معتبرا أن هذا القرار توج مسيرة طويلة من المساعي الدؤوبة الهادفة إلى اعتماد اللغة العربية ضمن اللغات الست الرسمية ولغات العمل المقررة في الجمعية العامة للأمم المتحدة ولجانها الرئيسية. وأكد أن هذا القرار الصادر عن أرفع محفل دولي، والذي يعترف بما للغة العربية من دور وإسهام في حفظ حضارة الإنسان وثقافته ونشرهما، هو مدعاة اعتزاز، اعتبر أن ذلك يرتب علينا، نحن العرب، حكاما ومواطنين، مسؤوليات جسيمة، وفي طليعتها ضرورة أن نتحلى بالواقعية في توصيف واقع لغة الضاد، وأن نتسلح أيضا بالجرأة في إطلاق المبادرات الرامية إلى الإعلاء من شأنها. وركز العويط على مبدأ جوهري مفاده أن الهوية الثقافية الفردية لا يمكنها أن تنمو وتتطور إلا من خلال انتمائها إلى هوية ثقافية جماعية جامعة، وأن بلورة عناصر هذه الهوية، ورعايتها، وحمايتها، وتعزيزها، رهن بقرارات سياسية. واعتبر أن هناك من يبالغ في التشاؤم، بسبب ما تتعرض له العربية في نظره من مؤامرات خارجية تستهدفها، وما يمارسه أبناؤها في حقها من إهمال وإساءات. هذه النزعة التشاؤمية يوحي بها مثلا عنوان كتاب الدكتور عبدالسلام المسدي: "العرب والانتحار اللغوي". ولكنك ستجد في المقابل من يبالغ في التعامي عن حقيقة المشكلات التي تعاني منها العربية، مؤثرا التسلح بمواقف ايديولوجية، ورفع الشعارات البراقة، والإغراق في تفاؤل طوباوي ساذج. مبادرات ومشاريع العويط تحدث عن الدراسة الميدانية البحثية التي أعدتها المؤسسة في كتاب تأسيسي تم توثيقه بعنوان: "لننهض بلغتنا: مشروع لاستشراف مستقبل اللغة العربية"، وإنشائها "جائزة كتابي"، لتشجيع دور النشر على إغناء المكتبة العربية بكتب مطالعة للأطفال والناشئة، مميزة ومشوقة، وإصدارها "دليل عربي 21" لتصنيف ما يربو على ألفين من هذه الكتب وفق أدق المعايير العلمية والفئات العمرية. مشيرا إلى أن المؤسسة تتهيأ حاليا للشروع في دراسة رائدة لوضع إطار مرجعي لتطوير تعليم اللغة العربية. ولفت إلى أن هذه المبادرات والمشاريع، على ضرورتها وأهميتها وجدواها، تبقى محدودة الفاعلية والأثر، وقاصرة عن تحقيق أهدافها المبتغاة، إن لم تصاحبها وتعضدها وتدعمها وتعممها قرارات سياسية، تمنحها الحصانة والمناعة والمشروعية، وتضفي عليها طابع الالزام. رئيس الخطة الدولية لتنمية الثقافة العربية مندوب المملكة في اليونيسكو زياد الدريس، كان من ضمن المتحدثين في الاحتفالية، إلى جانب رئيسة المجموعة العربية لدى منظمة اليونيسكو سميرة الموسى، ورئيس معهد العالم العربي جاك لانج، والمدير العام للأليكسو عبدالله محارب، والمديرة العامة لليونيسكو إيرينا بوكوفا. فعاليات الاحتفالية انطلقت بندوة تحت عنوان "اللغة العربية بين الهوية الثقافية والقرار السياسي"، تحدث فيها كل من وزير خارجية المغرب الأسبق ورئيس مؤسسة منتدى أصيلة محمد بن عيسى، مساعد أول وزير خارجية مصر الأسبق مصطفى الفقي، المدير العام لمؤسسة الفكر العربي هنري العويط، الأمين العام لمركز الملك عبدالله بن عبدالعزيز الدولي لدعم اللغة العربية عبدالله الوشمي، العضو المنتدب لمؤسسة محمد بن راشد آل مكتوم جمال بن حويرب. وعُقدت ندوة ثانية بعنوان "تاريخ الحرف العربي وعلاقته باللغات الأخرى"، شارك فيها الخطاط العربي والأكاديمي والمؤرخ غني العاني، وأستاذ اللغة العربية في جامعة رن علي نجيب، ورئيس مركز الثقافة والتراث العربي في مدينة بوردو ريم القطري، ورئيس الجمعية الفرنسية للمستعربين جولان لافيت، والباحث ورئيس قسم التدريب في المرصد الأوروبي لتعليم اللغة العربية أحمد الدبابي، والناشط في تعليم اللغة العربية في جمهورية النيجر عبدالمجيد حناكوكو. واختتم المؤتمر بندوة حول "الخط العربي والوسائل التقنية"، تحدث فيها الباحث في الكتابة الإلكترونية بالعربية ورئيس المرصد الأوروبي لتعليم اللغة العربية بشير العبيدي، وأستاذ الحضارة في معهد الغزالي بباريس كريستيان لوشون، وعضو الجمعية السعودية للخط العربي سراج علاف، والمتخصص في الذكاء الآلي وفي كتابة العربية آليا ياسر المحيو، والمتخصص باللغة العربية عبر وسائل التواصل الاجتماعي هود العمراني.