أثارت الأنباء الواردة من قرية تابت في ولاية شمال دارفور بإقدام جنود تابعين للجيش السوداني على اغتصاب 200 امرأة وفتاة في القرية ردود أفعال واسعة لم تقتصر على الداخل السوداني فقط، ولم تتوقف عند حدود الغضب السوداني، بل تلقف المجتمع الدولي تلك الأنباء باهتمام كبير، حيث وجهت الأممالمتحدة بعثتها في السودان المعروفة اختصاراً باسم "يوناميد" بإجراء تحقيق عاجل في القضية، ورفع توصياتها بهذا الشأن في أقرب فرصة ممكنة. وتعود أحداث القضية إلى شهر أكتوبر الماضي، حينما أكدت إذاعة "راديو دبنقا" المعارضة أن الجنود السودانيين اقتحموا قرية تابت، لمطاردة بعض المتمردين المسلحين، وحينما فشل الجنود في العثور على المتمردين اتهموا سكان القرية بإخفائهم، مما دفع قائد الجنود السودانيين إلى إصدار أمر فوري لجنوده باستباحة القرية واغتصاب نسائها، عقاباً لهم على مساعدة المتمردين. وفور انتشار الخبر خرج أنصار العديد من الحركات والتنظيمات المسلحة بدارفور في مظاهرات واسعة شملت العديد من الدول وعلى رأسها الولاياتالمتحدة الأميركية، وكندا، وأستراليا، والسويد، والنرويج، منددين ومستنكرين للجريمة. وطالبت المظاهرات التي تزامنت مع اليوم العالمي لوقف العنف ضد المرأة "أصحاب الضمير العالمي بضرورة العمل بصوت واحد من أجل إجراء تحقيق مستقل نزيه وشفاف عن طريق مجلس الأمن بعيدا عن يوناميد ونظام الخرطوم وإيقاف العنف ضد المرأة ووضع حد للحرب في دارفور، وجنوب كردفان، والنيل الأزرق. صمت مطبق تجاهلت الحكومة السودانية الأمر في البداية رغبة في عدم تسليط الضوء على هذه الاتهامات، لكن الأممالمتحدة سارعت إلى الإعراب عن قلقها من تلك الأنباء، وطالبت "يوناميد" بالتحري عن الأمر وإجراء تحقيق عاجل. وهو ما رفضته الخرطوم في البداية ومنعت البعثة الدولية من الوصول إلى البلدة، لكنها اضطرت بعد خمسة أيام إلى الرضوخ للمطالب الدولية المتصاعدة، وسمحت للفريق الدولي بزيارة القرية. عندما وصلت بعثة الأممالمتحدة إلى قرية تابت كان جنود الشرطة والجيش السودانيون يملأون شوارعها، مما تسبب في حالة رعب شديدة لدى السكان. ولم تجد البعثة الدولية من يؤكد وقوع حادثة الاغتصاب، حيث أنكر كل من سألته البعثة وقوع تلك الأحداث، وهو ما عزاه مسؤولون دوليون إلى خوف الأهالي من انتقام الجنود السودانيين. لذلك أصدرت المنظمة الأممية تعليماتها ل"يوناميد" بإعادة التحقيق مرة أخرى. في هذه المرة رفضت الخرطوم بشكل قاطع السماح للبعثة الدولية بدخول القرية ثانية، وبررت وزارة الخارجية السودانية منعها فريق البعثة الجديد ب"أن البعثة سبق لها إجراء تحقيق في الأمر وأصدرت بيانا نافية فيه تلك المزاعم"، مشيرة إلى أن البعثة بخطوتها الأخيرة خرقت اتفاقاً بينها وبين وزارة الخارجية السودانية. وقالت الخارجية في بيان: "البعثة الدولية عدلت عن بيانها السابق بنفي حالات الاغتصاب بتحركها من جديد لزيارة القرية، الأمر الذي رفضته الحكومة السودانية التي اتهمتها بخرق الاتفاق حول التنسيق المشترك بشأن مزاعم الاغتصاب الجماعي في القرية المذكورة". طرد البعثة الدولية ولم ينته موقف الخرطوم عند هذا الحد، بل طالبتها بوضع استراتيجية واضحة للانسحاب من البلاد كلية متذرعة بأن بعثة الأممالمتحدة والاتحاد الأفريقي صارا عبئاً على البلاد، ولم يعد بإمكانها توفير الحماية لنفسها، ناهيك عن مساعدة المدنيين في إقليم دارفور. وسلمت الخارجية السودانية مذكرة رسمية للبعثة بهذا الخصوص، كما قام الرئيس السوداني عمر البشير بزيارة تفقدية للبعثة، مجدداً طلب بلاده من البعثة الانسحاب من السودان، وهو الأمر الذي قد يضع الحكومة السودانية في مواجهة مباشرة مع مجلس الأمن، الذي كان اتخذ قرار تشكيل البعثة بموجب الفصل السابع من ميثاق الأممالمتحدة. ويؤكد محللون سياسيون أن إصرار الخرطوم على طلب سحب البعثة الدولية ربما يجعلها عرضة لعقوبات أشد قد تصل حد اتخاذ إجراءات عسكرية ضدها، ذلك أن وضع الخرطوم تحت طائلة البند السابع يجيز للمجتمع الدولي استخدام القوة ضدها. جوانب خفية من جانبه لا يستبعد المحلل السياسي محمد حسن سعيد وجود جوانب خفية ترفض الحكومة السودانية والبعثة الدولية الإفصاح عنها، مشيراً إلى عواقب وخيمة يمكن أن تترتب على الحكومة السودانية حال ثبوت تلك المزاعم. ويقول "تأخر الحكومة في السماح بدخول يوناميد لإجراء التحقيق في المزاعم المذكورة أضعف موقفها أمام الرأي العام العالمي ما لم تمنح فريقاً جديداً مستقلاً الفرصة لإجراء التحقيق في أجواء من الحرية والشفافية، وعلى حكومة البشير إدراك أن أي تعنت أو تصلب في الآراء لا يصب في مصلحتها، فالظرف الحالي ليس في صفها، وعليها إبداء أكبر قدر ممكن من المرونة، وحتى إذا ثبت تورط بعض جنودها في تلك الجريمة فإنها يمكن أن تتجنب أي إجراء بحقها، إذا اتسمت بالحياد وقدمت المذنبين إلى العدالة، ويمكن لها تأكيد أن ذلك التصرف لم يكن تنفيذاً لتعليمات رسمية، بل هو موقف فردي". عنتريات سابقة ومضى حسن بالقول "من الحكمة للمسؤولين في الخرطوم عدم الإصرار على مواقفهم العنترية القديمة والتحلي بالكياسة والتعاون مع المجتمع الدولي لتغيير الصورة الذهنية السيئة عن حكومة البشير، ذلك أن الدخول في مواجهة سياسية مع الآخرين لن يصب في مصلحتها، وعليها كذلك استثمار التحسن الطفيف الذي طرأ على علاقاتها مع العديد من الدول، والتمسك بالسير في ذات الاتجاه لتحقيق ما فيه مصلحتها. أما المكابرة والعناد فلن يقودا إلا إلى تضييع المكاسب التي تحققت خلال الفترة الماضية، وعودة الأمور مع المجتمع الدولي كله إلى نقطة البداية". علاج الخطأ بخطأ وتابع "اختلاق أزمة جديدة مع الأممالمتحدة عبر الإصرار على طرد بعثة يوناميد هو بمثابة معالجة للخطأ بخطأ أكبر منه، وسيدفع المنظمة الدولية إلى اتخاذ مواقف أكثر تشدداً من الحكومة السودانية، لاسيما أنها منخرطة في حوارات جادة مع متمردي دارفور، ومع الجبهة الثورية التي تقاتلها في ولايتي النيل الأزرق وجنوب كردفان. لذلك أعتقد أن الحكمة تقتضي رفع يد الخرطوم عن جنودها إذا كانوا مخطئين، والموافقة على محاكمتهم داخل السودان محاكمة عادلة، تعيد الحق إلى أصحابه، وتهدئ النفوس المضطربة في دارفور، وبذلك تكون قضت على مكامن الفتنة". مؤامرة خارجية بالمقابل ينفي عضو المكتب القيادي لحزب المؤتمر الوطني الحاكم ربيع عبدالعاطي وقوع حادثة الاغتصاب، مرجعاً الأمر إلى ما قال إنه "رغبة في تجريم الحكومة وتشويه صورتها أمام الرأي العام العالمي". وأضاف "المزاعم بوجود اغتصاب جماعي لنساء في تابت هي أخبار كاذبة وملفقة، يهدف من يقفون وراءها إلى مواصلة جهودهم في تشويه صورة الحكومة السودانية، كما أنها تأتي بالتزامن مع انطلاق مفاوضات الحل النهائي في دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق، مما يعني أن من أطلقوا هذه الإشاعة يريدون استخدامها كورقة ضغط على المفاوض السوداني في أديس أبابا لتقديم تنازلات إضافية، وهي حيلة تفاوضية قديمة اعتدنا على أن الحركات المسلحة تحاول استخدامها والاستفادة منها". وأضاف عبدالعاطي "فات على من أطلقوا هذه الفرية من أبناء دارفور أنهم تسببوا في الإساءة إلى نسائهم ومواطنيهم، حيث شهدنا مسيرات حاشدة لنساء دارفور، رفضن خلالها استخدامهن كسلاح في الحرب مع الحكومة، وجددن التمسك بشرفهن وعزتهن، وأكدن أن الجيش السوداني دأب دوماً على معاملة إنسان دارفور بكل احترام وتقدير، بوصفه ضحية لهذه الحرب اللعينة، وليس طرفاً فيها، بل فرضها عليه بعض أبنائه الذين لم يسبق لهم العيش في دارفور، بل ظلوا طوال عمرهم مطايا تستغلها استخبارات دول غربية وإقليمية". امتصاص الغضب وفي جهد إعلامي نقلت الحكومة السودانية مجموعة من مراسلي وسائل الإعلام الدولية وصحفيين سودانيين إلى إقليم دارفور ليشهدوا التحقيقات التي باشرتها الحكومة، حول ما قيل عن ارتكاب الجيش السوداني لعمليات اغتصاب جماعي في قرية تابت شمال دارفور. وعند وصول الصحفيين إلى القرية تحت حراسة قافلة من 40 سيارة عسكرية مكشوفة تحمل جنوداً وأسلحة ثقيلة كان في انتظارهم 300 شخص للترحيب بالجنود ونفي مزاعم الاغتصاب. وتحت ظلال إحدى الأشجار جلس مدعي جرائم دارفور للاستماع إلى نساء القرية حول مزاعم باغتصاب 200 امرأة وفتاة من قبل جنود سودانيين في 31 أكتوبر الماضي. وعبر كثير من السكان عن دعمهم للجيش الذي قالوا إنه يحميهم من هجمات المتمردين الذين يقومون بعمليات بالقرب من القرية. ولامتصاص غضب المجتمع الدولي لرفض الحكومة السودانية السماح للبعثة الأممية باستئناف تحقيقاتها في القضية لجأت الخرطوم إلى إرسال وفد قضائي برئاسة المدعي العام للمحكمة الخاصة بجرائم دارفور التابعة لوزارة العدل ياسر أحمد محمد إلى دارفور للتأكد من حقيقة الأوضاع، حيث بادر الوفد باستجواب العديد من النساء والفتيات في القرية، وأصدر الوفد في نهاية مهمته بياناً أكد فيه أن أهل دارفور ينفون بصورة قاطعة وقوع هذه الجريمة. الخصم والحكم وقال محمد في تصريحات صحفية "الفريق تأكد من عدم صحة وقوع عمليات اغتصاب بالبلدة، كما لم يتم تقديم أي بلاغ بحالات اغتصاب"، ولفت إلى أنه أجرى اتصالات بالمسؤولين في الولاية الذين "أكدوا خلو المنطقة من أي بلاغات بهذا الشأن". إلا أن معارضين للحكومة سخروا من ذلك البيان، مشيرين إلى أن حكومة البشير تريد أن تجعل من نفسها "خصماً وحكماً في ذات الوقت"، وتساءلت حركة العدل والمساواة على موقعها الرسمي بشبكة الإنترنت "هل يعقل أن تصدر الحكومة قراراً بتجريم جنودها؟ وهل نتوقع من نظام الخرطوم الذي أدمن الكذب والتسويف أن يعترف بأخطائه؟". وأكدت الحركة أنها لن تقبل "إلا بنتائج تحقيق بعثة مستقلة تتوفر لها كل الظروف المطلوبة لأداء مهمتها في أجواء من الحرية والشفافية، وأن يختفي الجنود السودانيون من شوارع القرية وأحيائها أثناء إجراء التحقيق". كما التقى وكيل وزارة الخارجية السودانية عبدالله الأزرق دبلوماسيين غربيين في اجتماع مفتوح بمباني الوزارة، حيث كرر نفي الاتهامات، مؤكداً أن 45 من جنود حامية الجيش في تابت يعيشون بين سكان القرية وبعضهم متزوج من نساء القرية. وقال الأزرق "لا نقول إننا ملائكة ولكننا متأكدون بنسبة 100% بأننا لسنا شياطين". وحول طلب مغادرة يوناميد قال الأزرق إن حكومته طلبت رسمياً من البعثة إعداد خطة للمغادرة، وأوضح أن ذلك لا يعني أن البعثة ستحزم أمتعتها وترحل على الفور، مشيراً إلى أن مغادرة البعثة ستستغرق وقتاً طويلاً. ولم يقدم الأزرق سبباً للطلب، لكنه قال إنه قدم منذ أسابيع قليلة قبل التقارير الإعلامية عن الاغتصاب الجماعي. معركة دبلوماسية وفي مؤتمر صحفي نفى المتحدث باسم الجيش السوداني العقيد الصوارمي خالد سعد التقارير التي تتهم عناصره بارتكاب عمليات الاغتصاب، واصفا تلك الاتهامات بأنها "غير مبررة ولا مسوغ لها". وقال "الاغتصاب الجماعي أمر لا يمكن أن تقوم به أي مؤسسة سودانية، سواء عسكرية أو غير ذلك. فهو أمر جديد كليا علينا كسودانيين. وعملياً لا يمكن حدوث ذلك، فالقرية صغيرة وحاميتنا هناك لديها عدد قليل من الجنود، لا يتجاوز 100 جندي". وأياً كانت الحقيقة، وماهية الطرف المستفيد من ترويج تلك الأنباء، يبدو أن الحكومة السودانية مقدمة على اختبار جديد، ستكون فيه الغلبة لصاحب الصوت الدبلوماسي المسموع. فإذا ما اتبعت الخرطوم طريق الحكمة وسعة الصدر والشفافية، فستكون قادرة على تجاوز هذه الأزمة. أما إذا تمسكت الخرطوم بنهجها العقيم القديم، وأرادت الدخول في معركة سياسية وإعلامية مع المجتمع الدولي، فإنها ستخسر لا محالة، ذلك أن الصورة الذهنية الراسخة عنها لدى غالبية المنظمات الدولية تتسم بالعناد والمكابرة ودعم الإرهاب، وسيكون الخاسر الحقيقي هو الشعب السوداني الذي سيعاني من استمرار الحصار الاقتصادي الخانق الذي تفرضه عليه الولاياتالمتحدة، والذي أدى إلى رفض العديد من الجهات المانحة مساعدة السودان أو تقديم قروض ميسرة له. وينصح محللون سياسيون بإيداع ملف القضية لدى وزارة الخارجية، حتى تتم معالجته بأسلوب هادئ رزين بعيد عن الانفعال والتشنج، مستشهدين بقدرة الوزارة بما تضمه من كوادر على إيضاح الحقيقة، إلا أن مسؤولين في وزارة الخارجية أعلنوا تذمرهم من عراقيل كثيرة تضعها جهات أخرى كوزارة الدفاع في طريق الجهود الدبلوماسية، مشيرين إلى أن الأخيرة تصر على استمرار العلاقات مع إيران، للاستفادة من مصانع السلاح التي تقيمها طهران في الأراضي السودانية، حيث تعارضت سياسات الوزارتين إلا أن الخارجية استطاعت الانتصار في النهاية، حيث أقنعت الرئاسة بإيقاف نشاط بعض الملحقيات الإيرانية مثل الملحقية الثقافية التي كانت تنشط في نشر التشيع. وهو القرار الذي وجد صدى كبيراً داخل السودان وخارجه، حيث أكد سياسيون أن السفارة الإيرانية انحرفت عن رسالتها الدبلوماسية الأصيلة، وباتت كل جهودها تصب في إطار نشر التشيع وإغراء السودانيين بالمال، مما سبب تهديداً للأمن الفكري والمجتمعي حسب تعبير الرئاسة السودانية.