نشر "المركز الدولي للدراسات الاستراتيجية وحقوق الإنسان"، تحليلاً سياسياً، يوم 26 نوفمبر الحالي، يشرح: كيف يمكن أن تضُر العولمة بالأهداف الاقتصادية العربية، ومن رفع معدل النمو، إلى تصحيح الهيكل الإنتاجي، إلى تحقيق المزيد من العدالة في توزيع الدخل، إلى تحقيق المزيد من التقارب أو الإنتاج بين الاقتصاديات العربية؟ إن المفترض أن تقترن العولمة بالضرورة بتوسيع السوق، والمفترض أيضاً تحفيز السوق لزيادة القدرة على التصدير ورفع معدلات الاستثمار، فكيف يمكن أن يلحق هذا ضرراً بمعدلات النمو؟ الأمر يتوقف على ما إذا كنا بصدد بلد يلعب دوراً إيجابياً أو سلبياً في العلاقات الاقتصادية الدولية، قادر على انتهاز فرص التصدير، أم يقنع بفتح أبوابه أمام الواردات. توسيع السوق يُمكن إذن أن يدفع معدل النمو إلى الارتفاع أو الانخفاض بحسب تشجيعه أو تثبيطه للدافع إلى الادخار والاستثمار. ومن الممكن بالطبع أن يجذب توسيع السوق رؤوس الأموال الأجنبية للاستثمار في البلاد العربية، ولكن أثر ذلك على رفع معدلات النمو والتشغيل يمكن أن يكون ضعيفاً أو عشوائياً، إذا لم تتوافر لهذه البلاد سياسة اقتصادية فاعلة توجه الاستثمارات في اتجاه دون غيره، وفقاً لما تتطلبه المصلحة القومية، وليس وفقاً لدوافع المستثمر الأجنبي. لقد كان لتطبيق سياسات الإنتاج، ابتداء من السبعينيات في الدول العربية التي كانت أكثر انغلاقاً في الستينيات، كمصر وسورية أثر سلبي على الهيكل الإنتاجي، فازداد اعتماد الاقتصاد على تصدير المواد الأولية وعلى إنتاج الخدمات، ولم يرتفع نصيب الصناعة التحويلية بدرجة ملموسة. كان لفتح أبواب الهجرة إلى دول البترول أثر إيجابي على معدلات التشغيل ومن الممكن أن يُعتبر هذا أثراً من آثار العولمة، ولكن الطلب على العمالة المهاجرة كان مرهوناً بالظروف الاقتصادية في الدول المستقبلة لها، وهذه الدول لم تتجه بدورها إلى رفع معدلات التطبيع فيها بدرجة ملموسة، ومن ثم اتجه الجزء الأكبر من العمالة المهاجرة إلى الاشتغال في قطاعات الخدمات التي يتوقف معدل نموها على ارتفاع أو انخفاض أسعار البترول، ومن ثم ما إن اتجهت أسعار البترول إلى الانخفاض ابتداء من منتصف الثمانينيات، حتى أخذ هذا الأثر الإيجابي للهجرة في الأفول. اقترن ارتفاع معدل العولمة كذلك ابتداء من سبعينيات القرن ال20، بنمو ظاهرة "المجتمع الاستهلاكي" في العالم ككل التي أضرت بمعدلات الادخار في البلاد العربية، كما أضرت به في غيرها واقترن كذلك باتجاه ملحوظ نحو زيادة درجة التفاوت في الدخول في معظم بلاد العالم، كما أكدت الإحصاءات المختلفة منذ ذلك الوقت، وكان آخرها ما ورد في كتاب "توماس بيكيتي" الأخير "رأس المال في القرن ال21". وهذه الظاهرة (أي اتساع الفجوة بين الدخول) وثيقة الصلة بظاهرة العولمة التي تتيح من الفرص لزيادة عوائد رأس المال، أكثر مما أتيح من الفرص لزيادة عوائد العمل، سواء في الدول التي هاجر منها رأس المال أو الدول التي أتى إليها وهي العامرة بالعاطلين الذين يقبلون العمل بأي أجر. عندما دعا الاقتصادي الإنجليزي الشهير، "جون مينارد كينز"، في منتصف الثلاثينيات من القرن الماضي، إلى أن تلعب الدولة دوراً أكبر في مجموع الإنفاق كعلاج لمشكلة البطالة، دعا في الوقت نفسه إلى فرض قيود على حركة التجارة ورؤوس الأموال، وهي دعوة معاكسة تماما لاتجاه العولمة. وقد عبَّر "كينز" عن نظرته إلى العولمة بقوله: "إني أتعاطف مع هؤلاء الذين يدعون إلى تخفيض الاعتماد الاقتصادي المتبادل بين الأمم إلى حده الأدنى، أكثر مما أتعاطف مع الداعين إلى زيادته إلى حده الأقصى. هناك أشياء يجب أن تكون عالمية كالأفكار والمعرفة والفنون والكرم في معاملة الغرباء والسياحة". في عصر أصبح النمو الاقتصادي في العالم كله مرتبطاً بتحرير التجارة وحركة رءوس الأموال، أظن أن رجلاً مثل "كينز" كان من الممكن جداً، حتى في ظروف مثل الظروف الراهنة أن يميز السياسة الواجب اتباعها في بلد عنها في بلد آخر، بحسب مدى حاجة البلد للتصدي لمشكلات حالة كشيوع البطالة والفقر، بل إن اقتصادياً آخر، أكثر حماساً بكثير من "كينز" لتوسيع السوق، ولحرية انتقال السلع ورؤوس الأموال، وهو "آرم سميث"، أقر هو نفسه تدخل الدولة بفرض قيود على التجارة عندما تشتد فيها معاناة الناس من البطالة. إن اتخاذ معظم الدول العربية موقف الترحيب بلا قيد أمام ظاهرة العولمة منذ السبعينيات، ووقوفها مكتوفة الأيدي أمام حرية رؤوس الأموال والسلع في التنقل من بلد لآخر، كان من بين العوائق التي عطلت تصحيح الهيكل الاقتصادي ونمط توزيع الدخل. ولكن العولمة لم تفتح الأبواب فقط أمام السلع ورؤوس الأموال، لكنها فتحتها أيضاً (بما اقترنت به من ثورة المعلومات والاتصالات) أمام الأفكار وأنماط الاستهلاك. نعم كان لهذا الافتتاح آثاره الفكرية والنفسية الطيبة في توسيع آفاق الشباب وتعريفه على مختلف الثقافات والحضارات، ولكن كان له أيضاً آثاره السلبية على التنمية العربية – إن النهم الاستهلاكي، على النمو الذي نشهده الآن في مختلف الأقطار العربية، لم يكن معروفاً منذ 50 عاماً، أو كان على الأقل مقصوراً على شريحة صغيرة جداً من المجتمعات العربية. الآن أصبحت زيادة الاستهلاك هي الهدف المرجو لشرائح واسعة من المجتمع، والحاكم لمختلف أنماط السلوك والعلاقات الاجتماعية. لم يضر هذا فقط بمعدلات الازدهار والاستثمار، وإنما الحق أيضاً ضرراً بليغاً بالشعور القومي، وبالولاء للأمة ككل، وبالتالي بالتعليق بفكرة الوحدة والاندماج العربي. لقد تفتت المشروع القومي خلال ال50 عاماً الماضية إلى مشروعات فردية صغيرة، تتعلق بزيادة دخل وثروة الفرد أو الأسرة، وبالترقي والصعود على السلم الاجتماعي. ومع اقتران الانفتاح الاقتصادي بزيادة تغلغل الشركات الأجنبية العملاقة في الاقتصاديات العربية واتساع نفوذها، تحول الولاء للأمة أكثر فأكثر، إلى ولاء للشركة التي تمنح هذه الفرص لزيادة الدخل والترقي الاجتماعي؛ هذا هو ما فعلت العولمة بالتنمية في البلاد العربية.