تعساً لأبوة تفعل ذلك، وتحتكر مستقبل أبنائها، في فكرهم وأمانيهم وهداياهم، وملابسهم! يأخذهم إلى السوق، فيختار عنهم، ويفكر نيابة عنهم! بحجة الصغر، أو الاستعجال، أو يضغط عليهم، فيكِلون إليه الأمور، ولا يسمح لهم بالتعبير عن دواخلهم! إن تربيةً بمثل هذا النسق والنمط، خليقة أن تصنع الإحباط والكبت والخرس والرجعية! وشبهه معلم المدرسة المستبد، الملغي لتأثير التلاميذ، والمانع للنقاش، وكابح الأسئلة والتفكير، وأشرس منه أستاذ الجامعة، المستنكف غرورا وترفعا، إلى درجة رفض التعليق، ونبذ التعقيب، والسكوت على الأخطاء والخطيئات! وأشنع منهم إداري جامد منغلق! تجري فيه الأنفاس الفرعونية: "ما علمت لكم من إله غيري"! يحتكر الماضي والحاضر والمستقبل! ومجالس إدارات متنوعة، تمارس الشورى والمحاورة، شكلا وتلميعا، دون تفعيل للشورى الحقيقية، والحوار الجاد. ومؤسسات تدعي الشراكة والتفاعل المدني والمجتمعي، ولكنها منغلقة على ذاتها: وجلّ جموعِهم ذراتُ شكل فلا رأي يُساس ولا عقول! ولئن جاز ذلك في العصور الحجرية، والفترات البدائية البائدة، لا يجوز انتهاجه في عصر النت وثورة الاتصالات والمعلومات، وتغير الأجيال! ومن يمارسه لم يعِ عصره، أو كان يعيش في نفق العته والسفه، حيث لا يبصر الشمس، ولا يستنشق الهواء العليل! وهبني قلت هذا الصبح ليلٌ أيعمى العالمون عن الضياءِ؟ أحسن ما في الإنسان عقله، فإن حرم ذلك، حرمناه نعمة الحياة واستلذاذها! يقول تومسون: "إذا لم يستعمل الإنسان دماغه فلا يمضي عليه وقت طويل حتى لا يجد دماغا يستعمله"، وبالتالي فمصيره إلى الضياع والضلال والخسارة. فالأب، يكرهه أبناؤه، والمعلم يَحقره تلاميذه، والأستاذ لا يُعترف بجميله، والإداري يفرحون بزواله، والمؤسسة إلى الإفلاس، بل ربما دعوا عليه، وتعجلوا يوم الفرج والخلاص. كذا هي النتيجة الحتمية للاستبداد القيادي، والإرهاب الفكري!. سل نفسك بكل بساطة: من منحك أحقية التفكير عن الناس، والتدخل في شغلهم وشؤونهم؟ لكأنك تزِنُ كل تلك العقول، ولديك القدرة على معرفة رغباتها وتوجهاتها! وأمانيها وميولها! للأسف، بعض الأسر لا تحكم الأطفال فحسب، بل تتسلط على الشبان، وتحرمهم حق الأمنية والهدف والمصير، فتتحدث عنهم، وتصنع تخصصهم الجامعي، ومستقبلهم الزواجي، ودورهم الاجتماعي! ومؤسسات متكاثرة، محتكرة من رهط استبداد، يلغي الكم والكيف والإنتاجية! فتخرج تلك الأجيال مكتئبة، منقبضة، لديها ردة فعل عنيفة، أو تعيش الخجل، الذي تعكسه على أبنائها، وتتسنم نفس الدور، فيتنامى الاستبداد، ويتوالد التسلط، ويُظن أنه فضيلة رفيعة.. قاتل الله الحمق والجهالة. ولذلك مؤسسات البيت والمدرسة ومركز الحي والمسجد، عليها دور تربوي عظيم، إزاء تلك الملمة، التي فرخت في الأمة مناهج تفكير خاطئة، ونتجت عنها أخلاق مشينة. فحُرمنا الاجتهاد، وبُغضت الحرية، وسُفهت الشورى، وتراجع الخطاب المنبري والإصلاحي، وباتت منتدياتنا الثقافية بالية خاوية لعلو نبرة التخلف فيها، وتسلط الاستبداد عليها، بحيث أضحت تفكر إداراتها في التفكير عنك، وتعد وتخطط دون إشراكك أو مشاورتك. ولئن انتقد العرب سابقا، بأنهم "ظاهرة صوتية"، فإنهم الآن يكادون يحرمون من حرية الصوت والتعبير والمشاركة، ورفع العقائر والحناجر! ويا ليت أنهم وقروا بشيء من ذلك، ليتنفسوا نزرا من الكلام، ويفشوا بعضا من الشجن، فتصح أجسادهم، وتطيب أرواحهم، ويسلمون من العلل والآفات. من المؤسف أنه في زمن الإعلام، لا إعلام، وحين جلاجل الصوت، وزلزلة البيان، لا بيان ولا صوت. ولسان الحال: لا تفكر، نحن نفكر عنك، ونتكلم عنك، ونخطب لك، نباشر عنك، وربما أكلنا عنك! وهذا ما يحصل، يتكلمون عنكم، ويأكلون نيابة عنكم! والحل: تيقن أن الحياة تغيرت، والأجيال تباينت، والجمود قاتل. الحل: امتثال المنهج النبوي: "أشيروا عليّ أيها الناس"، في غير مرة، وإصغاؤه عليه الصلاة والسلام إلى النساء والأطفال، وقوله للمشرك: "أفرغت يا أبا الوليد"؟ وطرح مساحات للتنفيس والتعبير، أكبر ضامن لهناءة التعايش والاستطابة، والخروج بوعي منير، وجيل فعال، وهمم متوقدة.