يعتبر المكان من أساسيات نجاح الرواية على اعتبار أنه يمثل عنصرا هاما من عناصرها كالشخوص والزمان والحدث والحوار . وعلى المبدع أن يتعامل مع المكان كهوية تنويرية تساعد في تشكيل أبعاد الرواية الدلالية والفنية. تختلف هوية المكان في الرواية العربية فقد نجد روائيا يجعل المكان واضحا للمتلقي بما فيه من جغرافية وحدود وتفاصيل يعمد إليها الكاتب لضرورة فنية. وبالمقابل نجد روائيا آخر يجعل المكان متسللا بين الأحداث والشخوص فلا يكاد يظهر منه إلا جزيئات صغيرة قد يلتقطها المتلقي بوعي أو بدون وعي. ومن هنا يبرز ذكاء المبدع في أنه يتحين الفرصة الجاذبة لإظهار عنصر المكان أو إخفائه. ندرك أيضا أن بعض الروائيين لا يعتمد على المكان الأحادي بمعنى أن يقتصر على مكان واحد تدور أحداث وشخوص الرواية فيه، بل يعمد إلى تعدد الأمكنة وإضافة أحداث كثيرة ترتبط ارتباطا وثيقا بشخوص الرواية ونموها. وبعضهم يستخدم المكان كمحطة عابرة وقصيرة اعتمادا على الذاكرة عبر تقنية الفلاش باك. وهذا من شأنه أن يخلق إيقاعات أخرى للعمل فحينما نقرأ: "سوناتا لأشباح القدس للجزائري واسيني الأعرج نجد أن المكان يعبّر عن ألم وأمل للشخصية "مي" التي غادرت القدس وعمرها ثمان سنوات إلى"نيويورك" وفرضت اسمها هناك فنانة تشكيلية تحلم بالعودة إلى موطنها. وقد تتشكل هوية المكان في حارات مكة داخل الحدود ولا يحاول أن يتشتت خارجها لئلا تفقد الشخصية قيمتها الفنية والخطابية والاجتماعية والماورائية ونجد ذلك في معظم روايات رجاء عالم. إذن "المكان" هو الوعاء العام لأي رواية، بوصفه عنصرا حيويا تدور فيه أحداث الرواية، سواء كان هذا المكان واقعيا أو متخيلا يزخر بالحياة والحركة والعوالم الإنسانية أو يقتصر على الركود والبقاء، وفي كلا الحالتين فالمكان يشكل إفرازات المجتمع فضائله وقبحه، وحتما لكل مكان خصوصيته التي تميزه عن الأمكنة الأخرى في الروايات العربية. لا يمكن لنا كقراء أن نغفل القيمة الرمزية والجمالية التي تتجسد في بعض الروايات بفعل المكان كونه رمزا حقيقيا للانتماء والحرية، ومثالا للوفاء والقيم الأخلاقية، في رواية "التبر" لإبراهيم الكوني يجعل الصحراء هي الاستمرار والطهر من ذنوب الحياة بعيدا عن المجتمعات التي تقوم على الاكتساب المادي والتباهي بحياتها. هل يعتبر المكان عنصرا جاذبا للمتلقي؟ بلا شك المكان بما يحويه من جماليات وقبح يعتبر بيئة جاذبة لمتلقي الرواية فهو يساعد على استقراء طبيعة الشخصيات ومعرفة حالتها. كما أنه بيئة خصبة لتوطين الصراعات الدائرة أو الانعتاق منها، ومن هنا نجدد فكرة أن الرواية تكتسب هويتها الفنية والأدبية من سلطة "المكان" كأحد عناصر الرواية الأكثر انصياعا لها.