الإهداء: إلى أمي تلك التهامية السماوية البيضاء.. مسكون أنا بشيء من السماء كالرحمة، والرضا، والجنة، فليت ألا يقرأ علي أحد من تلاوات الخلاص.. إني مفتون من خارطة رأسي الصغير إلى أثر قدمي المتشققة، ومن خبز – درويش – اليابس إلى خضاب أحمر في كف أمي الصالحة. كانوا يلهموننا بالكتابة عن فلسطين، والوطن، والشجرة، ولم يقل لنا أحدهم لو مرة اكتبوا عن الخلود، والطهارة، والقداسة، والحياة الهادئة في جزر عينيها.. لم يعلمنا أحد الكتابة عن حقول الجنة، والياسمين، وعباد الشمس في قلبها، وعن الأنهار والقمرين، والهواء الدائبات في ذلك الملكوت.. ما بين اليهود، والوطن والشجرة، ضاعت مفرداتنا متبلدة، وغير حقيقية، ودون إحساس صادق، ولم تكتمل، ولم نحسن التعبير.. والنتيجة أن الأشياء استوطنت كما هي، ولم تتغير مذ حين القلم الرصاص المكسور، والممحاة المقضمومة، والمسطرة المثلومة.. لا شيء.. لا شيء.. المعلم تعثر بالحروف، وبالهوامش، وبالأخطاء.. كاد أن يسقط في الهامش مرة لينقذ نقطتين، وحرف الكاف اللعين.. وحين كبرنا أدركنا حقيقة أن هناك ما هو أفضل، وأجل لمادة التعبير من كل أولئك. لو تخيلتُ مرة بأن معلم الدين يطلب منا في مادة الرسم مجازا بأن يرسم كل منا أمه، فلن يكون هناك أجمل من وجه أمي في ألواني؛ ولن يكون هناك أفضل من وجوه أمهاتهم في ألوانهم.. سيغضب ربما معلم الدين لأننا لم نحجبهن كما ينبغي، وقد يطمس النور في جباههن باللون الأسود.. لا بأس وإن فعل فالضياء الحقيقي لا يغيب.. لكن معلم الدين، والرسم، والرياضيات، واللغة لم يكونوا ليفعلوا كذلك أبدا.. إنهم مغرمون في ذلك الحين وحتى اللحظة بفلسطين، والطبيعة، وسلام العلم، وإجازة منتصف العام الطويلة!. لم تكن أمي تحشو لي التوست بالجبن، أو تخبئ لي فطيرة الزعتر، في حقيبة الفسحة، وتضع إلى جوارها عصير البرتقال المثلج.. لم تكن أمي تفعل ذلك في عجلة؛ كي لا يطير النعاس المعلق بعيونها، وتفرح بعودتها إلى فراشها وهو لما يزل دافئا.. كانت أمي تغسل بخيوط الشمس، وطل الأرض نعاسها.. لا أنسى أبدا رائحة خبز الجُمارة ، ورائحة العسل والحليب الساخن.. وكيف لي نسيان أناملها التي تصلاها النار والزيت قبل الشروق، وكفها المشمرة التي توحي بأن هناك غير هذا ينتظرها.. كان أبي لا يستعجلها فهي تدرك جيدا معنى الوقت، وتحترمهما الاثنين معا.. ولم يكن يقلب في سأم جواله الجديد، ويقرأ منه أذكار الصباح، ورسائل الواتس أب البائته، ولم يكن ليغرد صباحا في حسابه بأن الصباح الهام، وروح، وورد.. يأكل معنا من تلك – الحميراء – ويتأمل في صمت صوت العصافير التي تغرد في حسابها على الجدار الذي يريد أن ينقض.. كانت تصنع الحياة دون الرجوع لكتب البرمجيات العصبية، ولكتب الأسرة السعيدة.. إنها تحفظ أسفار الفطرة السماوية دون أن تقرأها.. هي معجزة من التكوين، ووحي عمل دائب لا ينقطع حتى حين، الأتعاب التي تعترضها لا تغمض عينيها لإدراكها أن الحياة شرسة وقد تذر في أعيننا العمى بعدها..!! لم تكن تلك السيدة الطاهرة المنزهة تتكور حين، وبعد أن يجيئها المخاض وهي تلهب تنورنا، أو حين يغشاها وهي بين السنابل المنحنية بالبركات، أو حين يجثم عليها وهي تحتطب لشتاء قادم، ولسبرات تجتث اليباس.. وهي لا تلهو حين كن من في عمرها يجدن وقتا للهو في ظل شجر السدر.. وكن يقصصن عليها في العشي قصة المحترفة تلك التي تلعب بالحصى لعبة – الخولة – وتتقنها جيدا ولا يسقط منها أي من أخوالها العشرة!. السيدة الصغيرة انتقلت دون علم وإذن بطفولتها، ومراهقتها إلى عمر آخر، لا تعلم ما هو، لكن الطقس فيه لا بأس به، والعمر فيه مرغوب، والأمومة تجُب ما قبلها، ما إن يهوي نجم من سماء رحمها إلى منظومتنا البشرية حتى يُستبشر به، ويكون نذيرا بأن الحقول ستكون بحال جيدة، إذ ذات يوم هو أحد العاملين الجدد فيها.. لم تكن أمي تحف بها الورود، والهدايا، والأقمشة الشتوية لمولودها الجديد، ولم يكن لديها الوقت للبقاء في السرير أربعين يوما بين الخادمات والمباخر من كل صوب.. لا وقت لديها، ورجل كأبي ينتظرها في الغدو والآصال.. ليس أجمل من لحظات أخ جديد لركام من الأخوة.. إنه يمنحهم الخلوة بالأكل المصحوب بالعسل، ورائحة البارود، والبخور الذي لا ينطفئ.. رائع جدا منظر الإناء الذي يمتلئ بالجمر، و الجاوي ويستظل من العيون تحت سرير أمي وأخي الصغير علي الذي كان يعطس باستمرار.. كما قد عرفت لاحقا سر بشرته السمراء!. ليست أمي السيدة العظيمة وحدها من كانت في زمن مضى.. كن جميعا أقرب للحياة وأقرب لله.. لا أعلم كيف كانت تصلي، لكنني لم أرها مرة تصلي كما يفعلن الآن.. أظنها كانت تختصر كثيرا من صلواتها، ولا تهتم كثيرا بالسنن المصاحبة لكل فرض.. كانت فروضها تشبه صلاة العصر الجميلة.. لكنها إن شاء الله صلاة مقبولة بكاملها إذ لا سجود للسهو فيها.. كانت تصلي ولربما لم تدعُ لنا مرة واحدة، لكنها كانت تعمل من أجلنا بإخلاص، فيستجيب الله دعاءها المنسي!. في قصير شهر شعبان، كانت تحضر جيدا لشهر قادم من الفضل.. إنها تسأل أبي في نهايته هل رأى هلال رمضان..!! شهر من صامه في ذلك الحين، فإنه قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.. ليس فيه غير الجهاد، والعطش الحقيقي المر، والهواء الذي لا يكفي حتى لأنفاس الحراث والرعاة.. كانت أمي تتعب فيه كثيرا حتى أني أشفق عليها أكثر من نفسي! لم أرها ولو لمرة واحدة تناولت كأس الأناناس الممتلئ بالماء لتشرب قبل أولئك المشردين البالغين قبل الشهر، وقبل المغيب، وهم حول المنزل في انتظار الأذان، ونداء الولادة الذي كنا نشعر بأنه مطر جليل لا يأتي في حينه.. كانت تضحك على أحدهم الكاذب الذي تعرف أنه قد اقتنص في نهاره فرصة للارتواء، ولقمة في مكان لم يره فيه أحد. كان معهم حين كادت الحياة تنفذ منهم.. لا بأس إذ لا يلام لو فر من هذا الجهاد، فجسده الصغير لا يقوى على كل تلك الطعنات الرمضانية الحارقة. لم أكن أقبل أقدام أمي ثلاث مرات في اليوم، ولم تكن لتحتضنني في كل حين! لكن غضب أبي يسكن حين أتوارى خلفها منه، طالبا حمايتها الموقتة.. وحين أطوف عليها، والدموع، والخوف يطارداني أشعر بقداستها، وقوتها، ولينها، وعطفها وكأن الكون حضنها وأنا به وحدي.. أظن ذلك يكفي.. كنت أتعمد إغاظة أبي لأكون في ذلك الكون وحدي.. لا أذكر أنها قبلتني قبل أن أنام، وحكت لي قصة الأميرة والحقول.. كنت أخبو قبل أن يتثاءب الفانوس الصغير، لا أتذكر أني قد رأيت مناما فالأحلام تندهش حين تشاهد التعب المشوه على ناصيتي، والسرير كان كفزاعة تجعلها تلوذ بالهرب. ما أنا مؤمن به حد اليقين الثابت، أن أمي ليس كمثلها أم، ولا يهمني ما يؤمن به الآخرون بأن كلا له أم ليست كأمي.