مرت الدولة السعودية منذ قيامها بطفرات كثيرة، بدأت على يد الملك عبدالعزيز فكان ذاك هو "زمن التوحيد" الذي كان إبداعاً بذاته، وعبقرية فريدة؛ إذ استطاع في ظرف زمني خاص و"لحظة تاريخية" ورؤية ودهاء سياسي أن يوحد أطراف الجزيرة العربية وينتظمها في دولة واحدة، فظهرت الدولة السعودية "الثالثة" على الوجود، وفي سنوات معدودة أصبحت دولة مثالية توازن بين معنيين مهمين: قيم "الأصالة" التي تراعي الماضي وتراث البلد وعقيدته ودينه، وقيم "المعاصرة" التي تدرك طبيعة العصر وظروفه وتحدياته وقيمه وحداثته، فسارت بهذين "الجناحين" في توازن صعب وشاق يحتاج إلى عناية فائقة حتى لا يؤثر أي معنى على المعنى الآخر، فأسس البناء وشق الطريق ورسم معالمه. التحديات والطفرات التي مرت بها المملكة العربية السعودية ابتداء من عصر الملك سعود -رحمه الله- إلى عصر الملك فهد -رحمه الله، وما تبع ذلك من أحداث سياسية واجتماعية ونقلة حضرية ساهمت في مسيرة التنمية في المملكة العربية السعودية، واستطاع الملوك أبناء المؤسس -رحمه الله- أن يسيروا بالمركب حتى استطاعوا تجاوز كثير من الموجات التي كانت متفاوتة الخطورة إلا أن بعضها كان مفصلياً وحساساً للغاية. إن "تسع السنوات" الماضية التي تسنم فيها القيادة خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز تعد استثنائية في العهد المعاصر للدولة السعودية الثالثة، فمع حجم التحديات التي مرت على المملكة التي بدأت منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر التي تسببت في حروب كبيرة في أفغانستان والعراق وظهور الإرهاب العملي والعمليات التي حاولت أن تنال من أمن المملكة، وبزوغ عصر الاضطراب في العلاقة بين الشرق والغرب بعد أحداث سبتمبر، وما تلا ذلك من حالة احتقان وحروب في فلسطين وغزة ثم ظهور أحداث ما يسمى ب"الربيع العربي" الذي كان نتيجة طبيعية لسياق الأحداث العالمية، إلا أن قيادة البلد -وعلى رأسها الملك عبدالله -حفظه الله- استطاعت التعامل مع كل هذه الأحداث بهدوء وسكينة ومحاولة التوازن في المواقف وتغليب جانب المصلحة الوطنية والنأي بالبلد عن المواجهات المباشرة مع الآخرين، والسعي إلى حل المشكلات بعيداً عن لغة الفوقية أو الاستعراض، وهذا كله خلص المملكة إلى اليوم من تبعات هذه الأحداث وخاصة تلك الاشتراطات التي يفرضها الغرب لتغيير هويات البلدان التي يظن أنها إما حاضنة للإرهاب أو داعمة له أو مؤثرة في نشوئه، وكانت الضغوطات كبيرة واجهتها المملكة بدبلوماسية دؤوبة حتى استطاعت تجنيب البلد آثار الأحداث وهياج الأعداء. وفي ظل هذه الأوضاع الملتهبة فإن عصر الملك عبدالله بن عبدالعزيز لم يهمل البعد "التنموي" والقفزات التي تحققت في مجالات كثيرة وخاصة فيما يتعلق ب( تطوير النظم)، التي هي في حد ذاتها تعد تجديدا كبيرا وخاصة ما يتعلق ب"القضاء" الذي يعد العلامة الفارقة في تقدم البلد وتطوره نحو العدالة والرقي واحترام الإنسان، وإن كان المشروع لا يزال إلى الآن في طور النشوء ولم يصل مرحلة الفطام إلا أن التصور العام عنه وما تقدم فيه من خطوات يبشر بخير لهذا القطاع الحيوي والكبير والمهم. وفي سياق الحديث عن "المنجز" في عصر خادم الحرمين الشريفين فلا يمكن أن نغفل حركة التطوير التي حظي بها قطاع "التعليم العالي" في المملكة والقفزة الكبيرة والنوعية التي يشهد لها حجم الجامعات والكليات التي قفزت في أعدادها وتضاعفت في عصر الملك عبدالله وما صاحب ذلك من حركة "الابتعاث" التي استفاد منها مئات الآلاف من طلاب الدراسات العليا بكافة التخصصات، وهذا بلا شك سوف ينعكس "استراتيجياً" على مخرجات التعليم والقيادة في كافة المجالات خلال السنوات القادمة. إن الحديث عن "المنجز" في زمن الملك عبدالله ليس هو شأن "مقال صحفي" أو تغطية في جريدة، فهذا يحتاج إلى مؤتمر كبير ترصد فيه التجربة، وتعمق فيه الرؤية وينظر فيه إلى عوامل القوة وانعكاساتها التنموية، وهي تجربة كذلك حرية بعملية "نقدية" للنظر في الدرجة التي تحققت فيها آمال الملك -حفظه الله، فليس المقصود من عرض "المنجز" هو تدبيج المديح الذي يمجه الملك نفسه -وفقه الله، وإنما للنظر فيها ودراستها وتقييمها وإدراك عوامل القوة والضعف في تحقيقها على أرض الواقع، مما ينضجها ويقويها في زمن التسارع الذي يشكل الوقت فيه عاملا مهما لإنجاح أي مشروع تنموي وحضاري. إن هذه المشروعات "المتنوعة" في زمن الملك عبدالله، سواء في التعليم أو في الصحة أو في البنية التحتية أو في الضمان الاجتماعي أو في الإسكان أو في الوفرة والميزانية "التريليونية" أو في مرافق القضاء أو في مشروعات "الحكومة الإلكترونية" أو فيما يتعلق بقضايا إصلاحية حساسة ومهمة كملف "الفساد والنزاهة" الذي يعد من التجديد الفريد في زمنه حفظه الله، أو في توسعة "الحرمين الشريفين" التي ستكون قفزة نوعية في السعة والخدمات للوافدين من المسلمين، وشبكات الطرق الكبيرة والمدن الاقتصادية ونظام الشورى والبيعة، وغيرها من المشروعات الكبيرة والكثيرة تحتاج إلى عناية منهجية وموضوعية في التقييم والرصد والعناية، فهي تشكل "حلم الملك" الذي سعى لتحقيقه، ولا يمكن أن تؤتى ثمارها إلا بتعاون الجميع على الإخلاص والصدق في الأعمال لإنجاحها وتقليل تعثراتها التي تقلل من قيمة المنجز وتضعف أثره الواقعي، وهذا هو الذي دعا خادم الحرمين الشريفين إلى تعزيز "المراقبة" وحرب "الفساد" وتعميق مفاهيم "النزاهة" حتى لا تكون هذه المشروعات سبيلاً للفاسدين والمستغلين الذين لا يهمهم إلا مصالحهم الخاصة حتى لو كانت على حساب مصلحة البلد ومستقبله واستقراره. إن هذه الإنجازات الكبرى سوف تذكرها الأجيال لخادم الحرمين الشريفين ولن تنساها أبداً، وهي أمانة بيد الجميع وامتحان صعب لكل مواطن سعودي يحرص على البلد ومستقبله، فالملك عبدالله لم يأل جهداً في بذل كل ما يستطيع في القفزة بالبلد مع وجود التحديات التي أضحت منجزات مفصلية جعلت المملكة ضمن اقتصاديات العالم العشرين الكبرى، ومعادلة صعبة في السياسة العالمية ومؤثرة في مسيرة الأحداث، وهي أمانة يتلقاها الأجيال جيلاً بعد جيل للمحافظة عليها وتكميل مسيرتها وتقييم تجربتها حتى تحقق المأمول منها، وهذه هي المهمة التي دائماً ما يتحدث فيها الملك إلى المسؤولين والوزراء ليجعل من "المواطن أولاً"، ولتكون كل المنجزات والخدمات والأعمال تصب في مصلحة المواطن وكرامته ذكراً كان أو أنثى، داعين الله لخادم الحرمين الشريفين بالصحة والعافية والتوفيق.