غدت حكمة جبران خليل جبران الشهيرة "الويل لأمة تلبس مما لا تصنع" مثار سخرية أمام سياسة الاقتصاد المفتوح والعولمة الاقتصادية وإغراق السوق بالمنتجات الرخيصة، لكن هذه المفاهيم الاقتصادية لا تعني شيئا بالنسبة لإنسان يبحث عن قطعة ملابس مستخدمة يواري بها جسده سواء كانت هذه الملابس مصنوعة بأيدي وطنية أو حتى بأيدي الأعداء، فما بعد العري من عار، إلا إذا اعتبرنا أن إنسانيتنا منقوصة حين نقارن بين من ينفق ببذخ على ملذاته وبين من يقلب أكوام الملابس المستخدمة للعثور على قطعة مناسبة يهديها أب معدوم لابنته المراهقة. في "حراج الصواريخ" بجدة أكوام هائلة من الملابس المستخدمة، من كل الأشكال والألوان والأنواع، بإمكانك أن تتشبه بالشيوخ بمشلح ثمنه 10 ريالات أو تشبه "بيار كاردان" ببدلة من السموكن الأزرق بخمسين ريالاً، أو تذهب إلى أبعد من ذلك لتجد أحدث صرعات الموضة الباريسية ملقاة على أرصفة البؤس، وماذا عن الأحذية، وربطات العنق، والبالطوهات وحتى الملابس الداخلية، كل شيء متوفر في سوق البضائع المستخدمة، من الجينزات وحتى القبعات. صمت مطبق في سوق الملابس المستخدمة تعلم الناس فضيلة الصمت، فلا أحد يتحدث إلى أحد إلا إذا كانا رفيقين، وبالكاد تلقي على أحدهم التحية حتى يتخذ وضعاً دفاعيا، فإما أن يتجاهلك تماماً، أو يدير لك ظهره، أو يرد عليك ببرود. هل يشعر الناس بالحرج؟ يتضح من سلوك الأفراد الذين تابعنا مشوارهم داخل السوق أنهم لا يرغبون في أن يراهم أحد في هذا المكان، وكأنهم يرتكبون عملاً مشيناً، وحاولت "الوطن" الحديث إلى بعضهم غير أنهم أشاحوا بوجوههم عند ما علموا أننا صحفيون، وأحدهم فقط الذي اضطر تحت إلحاحنا إلى الحديث معنا، كان يبدو من ملامحه أنه سوداني "اسمي عثمان"، هكذا قال لنا باقتضاب، ورفض الإفصاح عن اسمه الثاني فسألناه عما في كيسه الذي يحمله من مشتروات، وبدا عليه الحرج وهو يقول: أشياء، ملابس، بضعة أثواب، هذه كلها يا شيخ ليس لي، وهكذا نفى عن نفسه التهمة، فإذا لم تكن له فلمن يشتريها؟ يقول عثمان: أقوم في مطلع كل رمضان بشراء كمية من الملابس المستخدمة وأرسلها إلى الفقراء في قريتي، فهذه الملابس رغم أنها مستخدمة لها قيمتها هناك، وحين نثر عثمان محتويات كيسه أمامنا كان فيها عدة فساتين نسائية، قمصان، وإشاربات، حذاءان وأشياء أخرى ، وذكر لنا أنه يحضر لعدة مرات في رمضان ويجمع هذه الملابس ويرسلها إلى المحتاجين قبل حلول عيد الفطر. ماركات عالمية يرفض ياسين أن نصوره، فهو بائع للملابس المستخدمة، ويرفض في البداية الحديث معنا لكنه يتذكر أننا التقطنا له صورة ، فيضطر إلى تليين موقفه، ليقول لنا إنه لا يعرف شيئا عن الموضوع، ولا يعرف مصدر البضائع التي يبيعها، فهو يبع هذه الملابس لحساب تاجر سعودي، وإنه مجرد بائع فقط. يضيف ياسين أن معظم الناس حتى من أسر ميسورة الحال تشتري الملابس المستخدمة، وليس شرطاً أن يكون الإنسان فقيراً ليشتري من هذه السوق، لأن بعضها يتوفر على ملابس من ماركات أصلية وليست مقلدة، وأفشى لنا ياسين سراً بأن بعض الفتيات يتباهين بإهداء بعضهن ملابس من ماركات معروفة، لكن مصدرها الحقيقي هو سوق الملابس المستخدمة.