بذاكرة تمتد إلى 82 عاما جلس العم "محمود ذاكر" على كرسيه الخشبي في ممر مهرجان جدة التاريخية "كنا كدا"، ليشرح للأجيال المتعاقبة كيف كانت العروس، "معلم الرواشين" ذا البشرة السمراء قضى عمره في مهنة النجارة، كان فيها مهندس الديكور والمصمم واليد العاملة في الوقت ذاته، بأجرة لم تتجاوز الريال الواحد في تلك الأيام، ويرى محمود في رواشين منازل جدة التاريخية قصة لم تحك بعد، وتفاصيل مهمة في ذاكرة العروس تجاهلها أهلها، وطوت الأيام صفحة فنها. ويسرد العم محمود تفاصيل ذاكرته قائلا: "هي جدة جميلة بكل ما فيها، هي بلد التعايش والسلام، لها ماض تليد وحاضر مجيد، كنا نعاني فيها من ضنك العيش ومن قلة ذات اليد، ولكن كنا سعداء بما يكفي لأننا نحبها"، ويضيف محمود أنه بدأ العمل في مهنة النجار منذ أن كان عمره 12 عاما، حيث تعلم المهنة من أقاربه وأصدقائه، وبدأ العمل في ذلك الوقت بأجرة لم تتجاوز الريال الواحد، وكان أغلب عملهم في حارات جدة يعتمد على بناء وزخرفة الرواشين التي كانت سمة أساسية لأغلب منازل الحجاز تلك الأيام. ويشير محمود إلى أن الرواشين كان لها دور مهم، إضافة إلى مهمة الزينة حيث كانت تسهم في تلطيف الأجواء داخل المنزل وتسمح لأهل المنزل النظر للخارج دون أن يعرف من في الخارج من الشخص الذي "يطل من الشباك"، وبين محمود أن العمل في هذه المهنة بدأ ينقرض مع الطفرة العمرانية الحديثة، وهجر أهل البلد لمناطقهم وتوجههم لمناطق أخرى في جدة أكثر حداثة وتطورا، وأن أساليب البناء الحديثة لم تعد تناسب الرواشين. وكشف محمود أن ما شاهده من شغف الأجيال الحالية على الرواشين وسؤالهم عنها أوقد في قلبه شعلة الحنين، وأعاد له شريط الذكريات التي كانت أجمل فترات عمره، وأضاف: هذه الرواشين ممزوجة بعرق الرجال الذين قضوا عمرهم في العمل بجد وإخلاص؛ كي تكون مدينتهم أجمل مدن الدنيا. يذكر أن أصل تسمية الرواشين تعود لتعريب الكلمة الفارسية "روزن" وتعني الكوّة أو النافذة أو الشرفة وتعني الضوء، والمراد بها التغطية الخشبية البارزة للنوافذ والفتحات الخارجية، وتُحْمَلُ هذه الرواشين في الغالب على كوابيل من الحجر، وهي حاليا اسم تراثي لزخارف من الخشب تثبت على نوافذ المنازل، تتميز بأشكال فنية تتيح دخول الشمس والهواء إلى المنزل وتحجب الرؤية من الخارج، وتعدّ من أنماط البناء في المنطقة الغربية، وعلى الأخص مدينتا جدةمكةالمكرمة، وينبع والمدينة، وتشير المصادر التاريخية إلى أنها جلبت إلى مكةالمكرمة في أوائل القرن الرابع عشر الهجري.