مازال يقف التاريخ بإطلالته أمام' الرواشين' التي كانت وما زالت تمثل أصالة الزمان والمكان للطراز المعماري الحجازي القديم بمدينة جدة عروس البحر الأحمر، وأصبحت إحدى السمات المعمارية البارزة فيها، خاصة في الأحياء القديمة منها التي امتزجت عمارتها بخليط من الثقافات العربية والعثمانية والفارسية، بسبب موقعها الجغرافي الذي جعلها بوابة للحرمين الشريفين. وكالة الأنباء السعودية تجولت بين جنبات أحياء منطقة جدة التاريخية، وتعرفت خلالها على صناعة "الرواشين" والإرث الحضاري الذي تميزت به، في ظل عودة دائرة الاهتمام في بعض مدن المملكة إلى هذا الطراز المعماري الذي انحسرت صناعته، بسبب تأثير الحياة المعاصرة التي جلبت تصاميم حديثه في البناء والعمارة، أغنت عن الحاجة إلى استخدام الرواشين الحجازية التراثية. وفي ذلك السياق، أوضح المدير التنفيذي للهيئة العامة للسياحة والآثار بمنطقة مكةالمكرمة محمد بن عبدالله العمري، أن جدة التاريخية حظيت باهتمام صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن سلمان رئيس الهيئة العامة للسياحة والآثار منذ 25 عاماً، حيث كان شغوف بالتراث العمراني الوطني قبل إنشاء الهيئة العامة للسياحة والآثار وترأسه لها، وفي حينها نافح سموه إبان رئاسته الفخرية للجمعية السعودية لعلوم العمران، عن هذه المنطقة، ونادى المؤسسات المحلية والأهالي بأهمية النهوض بدورهم للمحافظة عليها، وهي أول المواقع العمرانية التي جرى حمايتها وتصنيفها في المملكة. ولفت العمري إلى أن صاحب السمو الملكي الأمير خالد الفيصل بن عبدالعزيز أمير منطقة مكةالمكرمة، منذ توليه مهام الأمارة قبل خمس سنوات، وجه بتشكيل لجنة عليا برئاسته لتطوير منطقة جدة التاريخية والمحافظة عليها منذ أن تولى مهامه كأمير للمنطقة، داعياً إلى أهمية مشاركة المجتمع في الحفاظ على المنطقة، كونها إرث الجميع، وتحتاج الجميع من رجل وامرأة وطفل، وتحتاج الفنانين والرسامين ورجال الأعمال والأدباء والمثقفين أن ينزلوا الميدان ويعملوا بسواعدهم، لتستعيد هذه المباني مكانتها الجميلة ونضارتها ومجدها ونصل بها إلى مصاف مواقع التراث العالمي. وأكد أن منطقة جدة التاريخية كان لها نصيب الاهتمام والرعاية المتواصلة من صاحب السمو الملكي الأمير مشعل بن ماجد بن عبدالعزيز محافظ جدة، ومن معالي أمين محافظة جدة الدكتور هاني بن محمد أبو راس، مبيناً أن الزائر لجدة التاريخية، سيكون على موعد للسفر نحو أعماق التاريخ، التاريخ الذي كان قد تعّمق منذ بواكير الصبا حيث يقف بإطلالته المهيبة من أمام "الرواشين' التي كانت وما زالت تمثل أصالة الزمان والمكان للطرز المعمارية الذي يمتزج فيها خليط من الثقافات العربية والعثمانية والفارسية بسبب موقعها الحيوي كبوابة للحرمين الشريفين. وأبرز المدير التنفيذي للهيئة العامة للسياحة والآثار بمنطقة مكةالمكرمة دور الهيئة في رعاية ودعم صناعة الرواشين والاهتمام بها حيث دشنت عددا من البرامج التدريبية في منطقة مكةالمكرمة انخرط فيها عدداً من الشباب السعودي المهتمين بالفن المعماري الحجازي الأصيل في دورات تحمل عنوان (عمل الرواشين الحجازية) بالتعاون مع مركز الأنشطة بالمعهد المهني الصناعي الأول بمحافظة جدة , مشيراً أن صناعة الرواشين تشهد نهضة وزخما شديدا في ظل عودة دائرة الاهتمام في بعض المدن في المملكة إلى هذا الطراز المعماري الفريد على الرغم من انحسار صناعة الرواشين لتأثير الحياة المعاصرة التي أغنت عن الحاجة إلى استخدامها. وأكد على أهمية العمل المشترك مع أمانة جدة بحكم إنها المسئولة عن جدة التاريخية من الناحية الإشرافية والخدمية خاصة وأنه تم أنشاء بلدية خاصة بجدة التاريخية للمحافظة على الرواشين على مباني جدة التاريخية كما يحلم بأن يأتي يوماً من الأيام تفرض فيه البلديات على الجهات الحكومية التي ستنشئ مباني لها في جدة خاصة وفي مختلف مدن المنطقة أن يتم تصميم المباني الحكومية بالتراث العمراني للمنطقة بما فيها إبراز الرواشين بشكل بارز. وأشار إلى أن الهيئة تعزز من قيمة المواطن ووعيه ووطنيته وتؤمن بأن ممتلكات الوطن لا يحفظها إلا أبناء الوطن ومن هنا وضعت البرامج والخطط المتعددة لتعزيز وعي المواطن بمكتسبات الوطن باعتبارها التمثيل الحقيقي لتاريخه وثقافته وانتمائه وهو الدليل الحي على التفاعل الحقيقي الذي نشأ بينه وبين بيئته وأنه يتعين عليه الاهتمام والمحافظة عليها كما يحافظ الإنسان على نسبه وتاريخه , وتفتح الهيئة مجالات متعددة ليسهم المواطن من خلالها في المحافظة على تراثه العمراني بالتعرف عليه والتعريف به وصيانته والتبليغ عما قد تتعرض له من تخريب أو سرقة. وأكد أن الرواشين كانت في السابق جزءا أصيلا في المنازل بجدة ولا يكاد يستغنى عنها في أي منزل بسبب ميزاتها العديدة وتمثيلها لأصالة الزمان والمكان , مشيراً إلى أن هذه الرواشين تعتبر نوافذ خشبية تنسجم مع البيئة المحلية في تلك الأزمنة , والرواشين لغة مفردها روشان وروشن وهو لفظ معرب عن الكلمة الفارسية "روزن" التي تعني الكوَة أو النافذة أو الشرفة.. يرادفها في مصر والشام المشربيات ومفردها مشربية وهي الغرفة العالية أو المكان الذي يشرب منه حيث توضع أواني الشرب الفخارية "القلل أو البرادية" لتبريد المياه بداخلها بينما في العراق يرادفها الشناشيل وجمعها شنشول. وذكر المدير التنفيذي للهيئة العامة للسياحة والآثار بمنطقة مكةالمكرمة محمد بن عبدالله العمري أن صناعة الرواشين عرفت في جدة بحسب المصادر التاريخية في أواخر القرن السادس الهجري على الأرجح وصارت طابعًا مميزًا لعمارة المدينة منذ منتصف القرن السابع الهجري وتتميز رواشين جدة عن مرادفاتها في العالم الإسلامي بأنها الأكثر ارتفاعًا والأكبر حجمًا وهي تركب في صفوف متراصة وكثيرًا ما تمتد وتتواصل من الطابق الأرضي وحتى الأدوار العليا أو تمتد أفقيًا حول الأدوار العليا فتكاد تغطي واجهة المنزل بأكملها. وبين أن الرواشين بوجه عام هي وحدات تصميمية جمالية تبرز عن سمت جدران المباني وتطل على الشارع أو على الفناء الأوسط وتستند على دعائم ناتئة "كوابل" من الخشب وتظهر فيها مهارات النجارين من خلال المشغولات الخشبية للقطاعات المتشابكة والطنف والأفاريز المائلة ومصارع النوافذ وغالبًا ما تكون مزودة بشيش يتألف من ستائر شبكية صغيرة. من جانبه صنف رئيس بلدية جدة التاريخية المهندس سامي بن صالح نوار رواشين جدة التي تتسم بالكثرة والتباين الجمالي ضمن ستة أنماط أساسية، النمط الأول : وهو عبارة عن بروز بسيطة عن الجدار علي هيئة صندوق يمتد عادة من الطابق العلوي للمنزل حتى قاعدته أو أساساته في الدور الأرضي وهذا الطراز هو الأبسط بين كافة أنواع الرواشين قاطبة. وأشار إلى أنه يركب في معظم الحالات على أحد جانبي المدخل بشكل متناسق وفي قطاعه الأدنى ثمة فتحات مستطيلة أو مقوسة حشوة بمصبعات من الحديد المزخرف أما الأدوار العليا فثمة قطاعات مُستطيلة الشكل فوق الفتحات وتحتها وقد توجد بعض الأحزمة الأفقية التي تشير إلي مستوى أرضية كل طابق من طوابق المنزل وغالبًا ما يخلو السطح الخارجي لهذا الطراز من النقوش البارزة وعوضًا عن ذلك يطلي بالألوان الزخرفية وفي العادة لا تتوج قمته بمظلة أو تاج. وأفاد أن النمط الثاني من الرواشين يتميز عن سابقه بأنه أكثر تنميقًا واتقانًا وعادة ما يتم وضعه فوق مدخل المنزل وتظهر فيه المقرنصات المتدلية والدعائم والكوابل المزخرفة وهذا الطراز قد يكون تجميعًا لوحدات متواصلة بدءً من الطابق الأعلى أو يكون علي هيئة مجموعة رأسية من الوحدات المنفصلة وبين كل طابق وآخر ثمة حليات معمارية أفقية وأحزمة من النقوش الزخرفية وعادة ما يكون الجزء العلوي علي شكل تاج مجوف بنقوش شبيهة بالمقرنصات وقد تختلف البروز الأمامية والتفاصيل الزخرفية من طابق لآخر في ذات المنزل. وقال : يعد النمط الثالث من هذه الرواشين وحدات منفردة توزع ضمن الإطار العام للشكل المميز لواجهة المنزل وتتنوع فيها التقسيمات والفتحات والستائر الشبكية ويتميز هذا الطراز بوجود مظلة تعلو قمته تكون مسطحة أو مائلة وتتباين أحجامها وأشكالها من منزل لآخر , فيما يعتبر النمط الرابع منها أطر من القواطع التي تأخذ شكل المستطيل وثمة فتحات صغيرة للنوافذ وعادة ما تكون قاعدته مسطحه أما قمته فيعلوها مظلة أو تاج , والنمط الخامس من الروعة الزخرفية وجمال المنمنمات بحيث لا ينافسه إلا النمط السادس ويتميز بتاج مجوف مثبت في أعلى مظلة مسطحة الشكل وقد تأخذ هذه المظلة هيئة زينة الشرفة وفي صناعتها تستخدم ألواح خشبية منقوش عليها نقوش خفيفة غير غائرة بما يشبه البلاط القيشاني وتزين الأطراف السفلية خرط صغيرة ذات نقوش بديعة وترتكز الجوانب علي كوابل مزخرفة. ولفت رئيس بلدية جدة التاريخية إلى أن النمط السادس من الرواشين يرى فيه البعض أنه أجمل الرواشين لاتسامه بتفاصيله الواضحة ونقوشه وزخارفه التي أنجزت بعناية فائقة وثمة مظلة في الأعلى عليها عقد ثلاثي الفصوص أما الكوابل فهي ذات منمنمات بديعة وثمة تشكيلة متباينة من الستائر الشبكية وحصير النوافذ وقطاعات ذات نقوش بارزة وفي الأسفل يصل الإبداع في النقش على الخشب إلي قمة ذروته حيث ثمة صفوف رائعة من المقرنصات وأشكال مجوفة نصف دائرية لا ينجزها إلا مبدع فنان. من جهته أوضح المستثمر في قطاع الإسكان سعيد بن علي البسامي أن وظائف الرواشين لا تقتصر علي إضفاء الطابع الجمالي على واجهة المنزل وتحقيق الخصوصية لأهله بل تنسجم بشكل كبير مع معطيات المناخ وتقلبات الطقس حيث تعمل هذه الرواشين على توزيع إنارة داخلية تعطي الغرف والردهات طابعًا رومانسيًا من خلال التحكم في نظام القلابات والمصبعات المتشابكة وهي في ذات الوقت تحد من وهج الشمس حيث أن مكوناتها الخشبية التي كانت تجلب من الخارج أو من خشب الدوم الذي ينمو في الأودية القريبة من الطائف تتسم بقدرتها علي العزل الحراري. وتابع قائلاً : لكون الرواشين بارزة عن سمت الحائط الخارجي ومصممة بحيث تضبط تدفق الهواء ومعدل الرطوبة فإنها تعد بمثابة مكيفات هواء طبيعية تريح الجسد ولا تعادي البيئة ولعل من أهم دلائل وجود هذه الخاصية في الرواشين أنها المكان المفضل لتبريد أوعية الشرب الفخارية "القلل أو البرادية" إلي جانب ذلك فهي تحد بشكل كبير من دخول الأتربة وتعمل علي تساقط حبيبات الرمل التي تحملها الرياح بحيث لا يتسلل منها شيء إلي الداخل كما تمنع دخول الحشرات الضارة إلي جانب ذلك فقد ثبت علميًا أنها تطيل من العمر الافتراضي للمنزل كونها تغطي الجدران وتحميها من العوامل الجوية المتقلبة صيفًا وشتاءً. وذكر أن الوظائف البيئية للرواشين ليست قاصرة على الداخل وإنما أيضًا يستفيد منها المارة في الشوارع حيث يتخذونها كمظلة أثناء سيرهم تقيهم حرارة الشمس صيفًا وهطول المطر شتاءً ولكون تصميمها يتأثر بشكل كبير بالتصميم العام للأزقة والشوارع التي تطل عليها فإن الرواشين تحقق ثلاثية من التجانس وهي التجانس بين عناصر البيوت والتجانس العام بين واجهات المباني بمفرداتها المعمارية وعناصرها الجمالية والتجانس في نوعيات مواد البناء المستخدمة والأساليب المتبعة في عملية البناء حيث يعزز مثل هذا التجانس الترابط بين السكان وبيئتهم التي ينتمون إليها.