إلى أين تتجه بوصلة الأحداث في ليبيا؟ سؤال فرض نفسه بقوة على المشهد العربي في ظل النزاعات القبلية وسيطرة الميليشيات على عدد من المدن والمنشآت النفطية، وضعف الحكومة المركزية، وكلها عوامل تزيد من احتمالات انهيار الدولة الليبية، وتزايد الفوضى في واحدة من أكبر الدول العربية والأفريقية أهمية، خاصة أنها تعد جزءاً مهماًّ من الساحل الجنوبي للبحر المتوسط، ولا تبعد شواطئها كثيرا عن السواحل الجنوبية لأوروبا، الأمر الذي جعل الغرب ينظر إليها باهتمام بالغ، في وقت غاب فيه عن الذهن العربي منحها القدر الكافي من الاهتمام. حتمية التقسيم وحسب ما نقله موقع دويتشه فيله الألماني عن أستاذ العلوم السياسية في باريس لويس مارتينيز، فإن تطورات الأوضاع في ليبيا "تنذر بأنه لا يمكن الحفاظ على وحدة أراضيها، لأن القوى المتحاربة قوية جداًّ، وأن على الدول الأوروبية أن تكيف نفسها للبحث عن سبل للتعامل مع انفصال مجموعات سكان ليبيا عن بعضها البعض كأمرٍ واقع، وسيكون على دولة مثل إيطاليا وشركات مثل عملاق الطاقة الإيطالية إيني، التي استفادت لمدة طويلة من وجود حكومة مركزية قوية في ليبيا، فضلاً عن أن طرابلس أمنت إنتاج النفط في البلد الذي يمتلك أكبر احتياطي للنفط في أفريقيا، أن تجهِّز نفسها لسيناريوهات ما بعد انهيار تلك الحكومة المركزية، خاصة أن هناك خطوط أنابيب مهمة ومنشآت نفطية متوقفة عن العمل الآن بسبب النزاعات، والمشكلة بالنسبة لنا نحن الأوروبيين هي كيفية تأمين إمداداتنا من الطاقة بطريقة تتماشى مع القرارات الحرة للشعب". في المقابل، نقل الموقع عن جيسن باك، مدير إحدى شركات الاستشارات الخاصة في ليبيا، قوله: "ليبيا ليست مهددة بالانقسام، فمعظم سكان منطقة برقة، ليسوا مع الانفصاليين الذين يدعون إلى إقامة دولة خاصة بهم، والأمر متوقف على البدء في تنسيق دولي لاتخاذ إجراءات بشأن ليبيا، وإلى وجوب إشراك كل الدول التي وقفت ضد القذافي، خاصة الدول ذات الطابع الإسلامي، لأن ذلك سيكون إشارة قوية إلى جميع الميليشيات والقوى التي تعوق التوصل إلى حل سلمي". دور القاعدة من جهته، يقول العميد محمود قطري، في تصريحات إلى "الوطن" "لا بد من اهتمام دول الجوار خاصة مصر بتطورات الأوضاع في ليبيا، خاصة أن الأوضاع هناك تبدو شديدة التعقيد، فالدولة الليبية تحيط بها الأزمات من أكثر من محور، أبرزها النشاط الواضح للقاعدة في منطقة المغرب العربي، والتي تتخذ من الصحراء الليبية والجزائرية مرتعاً لعملياتها في تهريب السلاح والمرتزقة الذين يشكلون عماد الميليشيات في ليبيا، وكذلك سيطرة الميليشيات على مخازن الأسلحة الليبية التي فقدت الدولة السيطرة عليها بعد مقتل معمر القذافي، وكلها عوامل جعلت الدولة الليبية هشة للغاية". وأضاف بأن موازين القوى تتجه لصالح الميليشيات التي باتت تتمتع بنفوذ أكبر مما تتمتع به الحكومة المركزية، وتصرفاتها الأخيرة تدل على ذلك بوضوح. وتابع "الحكومة أضعف بكثير من الميليشيات، ما جعلها تخضع لابتزازها، لأنها تتحكم في إنتاج النفط وتعين الوزراء، بل وتعتدي على الشخصيات العامة، مما أدى إلى تراجع صورة الدولة الليبية في الداخل والخارج، خاصة بعد مقتل السفير الأميركي في طرابلس، والاعتداء على أكثر من قنصلية وسفارة، منها القنصلية المصرية في بنغازي، واستمرار هذا الوضع سيكون في صالح الميليشيات العسكرية التي يزداد نفوذها يوماً بعد يوم بعد فشل الحكومة في طردها خارج المدن، خاصة العاصمة طرابلس، إضافة إلى أن انفلات الميليشيات المسلحة وضع ليبيا على حافة الانزلاق إلى هاوية حرب المدن، بدءاً من طرابلس نفسها". المجالس العرفية ويقول الكاتب الصحفي المتخصص في الشؤون الأفريقية محمد عبدالله في تصريحات إلى "الوطن": "الوضع في ليبيا مرشح لمزيد من الأزمات الأمنية، ما دامت قوات الأمن والجيش غير قادرة على إعادة الأمور الأمنية إلى نصابها واحتواء السلاح الذي ينتشر في كل المنازل تقريباً، حتى إن تلك الميليشيات ترفض الانصياع إلى تعليمات الأمن بضبط النفس والتخلي عن سلاحها، ناهيك عن تماديها في ترويع الآمنين". وأضاف "ربما يتوقف الأمر الآن على المجالس العرفية وهي كثيرة في ليبيا للتدخل بسرعة وعقد لقاءات موسعة تشمل السلطات الرسمية والأمنية والعرفية، من أجل وضع حد لانتشار السلاح أولاً، ودعوة الميليشيات إلى الالتزام بالقانون العام وعدم تجاوزه. والأهم من كل ذلك هو أن تتم الدعوة وبسرعة إلى تسليم الأسلحة إلى الأمن والجيش كضرورة قصوى لاحتواء ظاهرة التعدي على المواطنين والمنشآت العامة والخاصة". وعن تصوره لواقع الأمر والتطورات على الأرض الليبية يقول: "يمكن تلخيص المشهد الليبي الحالي، على صعوبة تضاريسه، بأن ليبيا تشهد بالفعل معركة تكسير عظام بين حكومة رئيس الوزراء الليبي علي زيدان، الذي اعتاد إطلاق التحذيرات بشأن ضرورة استعادة هيبة الدولة، وبين الميليشيات التي تريد فرض قوتها على الأراضي الليبية". مصالح خاصة وفي ذات السياق يقول الخبير في الشؤون الليبية بمركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية الدكتور زياد عقل: "من الواضح أن الميليشيات المسلحة، سواء في داخل العاصمة الليبية أو الموجودة خارجها، لديها مصالح تريد حمايتها والحفاظ عليها حتى وإن كان ذلك بقوة السلاح، وطالما ترفض الحكومة الاعتراف بمصالح هذه الميليشيات، فإن خططها تبقى غير فعالة، وهذه المجموعات المسلحة، التي تنتمي إلى عدة مناطق وقبائل ليبية، ساهمت في عملية الإطاحة بنظام القذافي، حيث اتحدت فيما بينها أثناء المعارك الضارية ضد قواته، لكنها تفرقت اليوم بعد أن باتت لها أهداف متعددة، بل وأصبحت تشكل معضلة أمنية كبيرة ليس للسكان فقط، بل حتى بالنسبة للحكام الجدد في ليبيا". معضلة الأسلحة ويرى الخبير بشؤون شمال أفريقيا جيف بورتر، وفقاً لتقرير نشرته مؤخراً وكالة "رويترز" نقلاً عن شهادته التي أدلى بها أمام الكونجرس الأميركي: "الحكومة الليبية لا تحتكر القوات في البلاد، وقدرتها على العمل معرضة للخطر، لأن كل الميليشيات تملك كميات كبيرة من الأسلحة، والحكومة ليس أمامها من سبيل سوى حثها ودفعها إلى تسليم سلاحها. ويوجد في مصراتة 6 كتائب تضم أكثر من 200 وحدة، وتمتلك أغلب الكتائب عدداً من مخازن السلاح في مواقع مختلفة. كما تتناثر الترسانة العسكرية الليبية في أنحاء المناطق الواقعة على مشارف مصراتة المدينة الساحلية الواقعة على بعد نحو 200 كيلومتر إلى الشرق من العاصمة طرابلس". التدخل الأجنبي من جهته، توقع الدكتور يوسف شقير، المستشار السابق للعقيد الليبي معمر القذافي، في مقابلة أجرتها معه إذاعة "صوت روسيا"، أن تلجأ السلطات الليبية إلى الاستعانة بتدخل أجنبي للخروج من المأزق الحالي، معداًّ أن هذا التدخل هو المخرج الوحيد للأزمة، وأضاف أن ما يحدث الآن ينم عن الفشل الكامل في إقامة الدولة وبسط هيبتها التي تم تدميرها بعد خطف رئيس الوزراء علي زيدان، والفيديوهات المسيئة التي نشرت له، والانفلات الأمني، على حد قوله. وتابع "الميليشيات المسلحة التي تسعى لفرض هيمنتها على ليبيا اليوم، يسيطر عليها أفغان وأردنيون وتونسيون وجزائريون، والبوابات في ليبيا في الليل في يد الميليشيات، ولو ذهب أحد ما إلى بوابة الكوارشة أو سيدي فرج، على سبيل المثال، لوجد أنصار الشريعة التونسيين والجزائريين والأفغان موجودين ومعروفة أماكنهم وفاقت أعدادهم ألفي شخص، لأن هذا المشروع ليس مشروعاً ليبياًّ، بل هو مشروع تمكين للقاعدة في شمال أفريقيا، ولن يستطيع الغرب عمل شيء لأن هؤلاء انتشروا وتسربوا بين السكان". تدريب أميركي وفي الوقت الذي تزداد فيه الأوضاع الاقتصادية صعوبة، خاصة أن خسائر وقف تصدير النفط الخام عبر عدد من موانئ التصدير التي يسيطر عليها مسلحون بلغت حتى الآن 7 مليارات و500 مليون دولار وفقاً لتصريحات وزير النفط الليبي عبدالباري العروسي، فقد تزايد سعي الدول الغربية للبحث عن حلول عسكرية للتدخل بصورة أو بأخرى في ليبيا، حيث كشف رئيس قيادة العمليات الخاصة الأميركية وليام مكرافن، لصحيفة وول ستريت جورنال الأميركية، أن الجيش يتفاوض مع ليبيا لبدء تدريب قواتها الأمنية، في خطوة قد تساعد في إيجاد دور أعمق لعسكريين أميركيين في منطقة شمال أفريقيا غير المستقرة. وأضاف مكرافن، خلال منتدى لشؤون الدفاع في كاليفورنيا، أن الولاياتالمتحدة تأمل في تدريب ما بين 5 إلى 8 آلاف من قوات ليبيا التقليدية، كما ستمارس قوات العمليات الخاصة جهداً موازياً لتدريب قوات الكوماندوز الليبية. وقال مكرافن: "الجهود الواعدة محفوفة بالمخاطرة في الوقت نفسه، لأن بعض الأفراد الذين ستدربهم الولاياتالمتحدة لا يملكون سجلات شخصية ناصعة، ولكن رغم كل تلك الشكوك فإن عملية تدريب القوات الأمنية للشركاء لا تزال أمراً بالغ الأهمية للأمن الأميركي، حيث إنها الحل الأفضل الذي نراه". مفترق طرق ولم يوضح "مكرافن" أكثر من ذلك، لكن مصادر إعلامية ألمحت إلى أن ليبيا في مفترق طرق بسبب الجماعات المحلية المسلحة التي ترتبط أحياناً بتنظيمات متطرفة، كما أن كثيراً من أفرادها قد ينتهي بهم الأمر إلى الانضمام رسمياًّ إلى القوات النظامية للدولة". ولفتت إلى أن الولاياتالمتحدة تبحث منذ فترة طويلة عن سبل لتكثيف تدريب القوات الليبية في أعقاب سقوط القذافي عام 2011، لكن عملية الهجوم على السفارة الأميركية في بنغازي ومقتل عدد من الدبلوماسيين بينهم السفير أخرجت هذه المناقشات عن مسارها. وختمت المصادر بقولها: "قيادة العمليات الخاصة بقيادة مكرافن مسؤولة عن كافة أفرع الجيش الأميركي، من القوات الجوية والبحرية إلى قوات العمليات الخاصة التابعة لمشاة البحرية، كما تعدّ القيادة الرئيسية في وزارة الدفاع الأميركية لتخطيط وتنسيق الجهود ضد المتطرفين المؤيدين للعنف"، على حد قولها.