في الحلقتين السابقتين، على مدى اليومين الماضيين، تعرضنا لأساليب ينتهجها المهربون لتهريب البشر الراغبين في اللجوء والهجرة إلى أوروبا. كما تعرضنا إلى الطرق والحلول الأمنية التي تنتهجها دول الاتحاد الأوروبي، خصوصاً لحماية حدودها ومنع التسلل عبرها، والتي يشير مراقبون إلى أنها لا تمنع الهجرة غير الشرعية، بقدر ما تغير طرقها ومسالكها. واليوم نواصل في هذه السلسلة لنتحدث عن طرق أخرى، يسلكها المهربون، أو على الأقل يعرضونها على الراغبين بالهجرة إلى أوروبا بحثاً عن أمان واستقرار مفتقدين في بلدانهم، أو سعياً لتحسين مستوى معيشتهم. حواجز الريبة على ناصية مخرج محطة اكسراي في قلب مدينة اسطنبول التركية يقف عادل.. يرتدي بنطالاً رياضياً وكنزة زرقاء.. على محياه تبدو ملامح التعب الشديد.. أمامه علبة كرتونية فارغة حوّلها إلى ما يشبه الطاولة، ووضع عليها بضع علب من السجائر التي كان يبيعها للمارة.. متناوباً على ذلك مع شاب صغير من جنسيته. كان عادل شاباً نحيلاً طويلاً تُظهر قسمات وجهه أنه من الشمال العربي الأفريقي.. لذا جربت أن أعبر إلى التواصل معه مستخدماً اللغة العربية منفذاً لكسر حواجز الريبة.. خصوصاً حينما سمعت صديقه يقول له بكثير من الألم والتذمر "يا الله متى نعود إلى بلدنا؟. سألت عادل "هل أنت هنا منذ زمن بعيد؟".. أجابني "منذ مطلع عام 2012.. أنا من تونس.. اسمي عادل".. تبادل عادل مع صديقه الأماكن.. وجاء لينال قسطاً من الراحة على الرصيف المجاور دون أن ينسى مهمته في مراقبة قدوم رجال البلدية الذين يطاردون الباعة المتجولين، ويمنعونهم من ممارسة عملهم غير النظامي. قلت له "ألم تجد عملاً أفضل؟".. فأجابني "هذا عمل خفيف يؤمن لنا بعض النفقات.. نريد أن نعيش يومنا ريثما نرتب أمورنا".. بادرته "للهجرة؟".. لم يُفاجأ.. لكنه رد "لا".. أوروبا متعبة.. كنت هناك.. أعرف خمس لغات.. وقد أعادوني من الحدود المجرية". سألته عن طريقة عبوره ووصوله إلى هناك، فقال "العبور سهل.. مقابل 300 دولار يمكن أن أوصلك إلى اليونان.. أعرف الطرق إلى هناك.. لدي صديقان كرديان في أدرنة (وأدرنة هذه مدينة تركية حدودية مع اليونان وبلغاريا) يمكنهما وضعك في السيارة وإيصالك إلى حدود اليونان.. هناك عليك أن تمشي قليلاً، ومن ثم تسلم نفسك للأمن اليوناني". بدا عادل خبيراً بطرق التهريب، ربما لأن محاولاته المتكررة منحته هذه الميزة.. وهو يقول "بألف دولار يمكنك العبور بالقوارب المطاطية.. ومقابل 2500 دولار تمر باليخت إلى اليونان.. ومن هناك تجد غالباً (تاكسي) يتوقف بالقرب من محطات القطارات الرئيسة الدولية، تعطيه 100 إلى 200 يورو ويمكنه أن يوصلك مقابلها مع بقية الركاب إلى النمسا أو ألمانيا.. لكن عليك ألا تُظهر له أنك لا تحمل أوراقاً نظامية.. اركب وتصرف كأي راكب آخر، ضع حقيبتك الخفيفة في حقيبة السيارة، واجلس مع باقي الركاب، وحاول ألا تتكلم كثيراً". لم يَبدُ عادل متحمساً لأوروبا وما فيها، ربما لأنه جربها مرات، وقد تعلل بأن مشاكل في أوراقه منعت نيله الإقامة الرسمية هناك، وكان ينتقد المبالغ الكبيرة التي يطلبها المهربون من الراغبين بالهجرة، فيقول "يطلبون الآن من 8 إلى 10 آلاف يورو.. بهذا المبلغ يمكنك أن تستثمر هنا في تركيا، يمكنك أن تشغل مجموعة من الشباب، وتحقق إيراداً جيداً حتى لو لم تعمل.. فلماذا تغامر؟". أدوات التواصل يرفض بعض المهربين أن يضعوا قدماً على أخرى بانتظار أن تأتيهم الزبائن، فيفضلون المبادرة، وهذا ما يفعله ممدوح الذي لجأ إلى صفحات الفيسبوك ليعلن أنه قادر على تهريب الراغبين إلى ألمانيا، واضعاً رقماً هاتفياً للاتصال به. حينما أجريت الاتصال، لم يتأخر الرد، حاولت أن استفسر عن الطريقة، فشرحها لي بمنتهى البساطة، وقال "بإمكاننا إيصالك إلى صالة الترانزيت في مطار فرانكفورت، ومن هناك تسلم نفسك لدائرة الهجرة وتطلب اللجوء". وأفاض أكثر "نحن نحجز لمسافر جزائري انطلاقاً من الجزائر العاصمة مروراً بفرانكفورت كمحطة ترانزيت وصولاً إلى اسطنبول، وعند وصوله هنا نستبدل صورتك بصورته على جواز سفره ونعيدك بدلاً منه على رحلته إياباً، لكنك تنتظر في مطار فرانكفورت حتى تقلع طائرة فرانكفورت الجزائر، ومن ثم تسلم نفسك لدائرة الهجرة، وإن استطعت أن تخرج من الصالة دون تسليم نفسك فيمكنك أن تمر إلى أي بلد أوروبي آخر.. لكن مسؤوليتنا تنتهي بإيصالك فرانكفورت". وكانت الكلفة أيضاً هذه المرة تصل إلى 8 آلاف يورو. شاحنة السكون لا يُسقط المهربون استخدام الشاحنات والصهاريج من حساباتهم، وإن كان الإقبال عليها قد خف كثيراً نتيجة تشديد الرقابة على الحدود البرية، دون أن يعني ذلك القضاء عليها تماماً. وقبل سنوات، كان المهربون يجهزون شاحنات خاصة مغلقة يتم فرش صندوقها، ويضعون فيها عوائل كاملة، وينطلقون فيها عبر طرق خاصة من تركيا ودول أخرى وصولاً إلى النمسا أو ألمانيا، مستغلين علاقاتهم برجال الحدود، ومعرفتهم بالطرق غير الرسمية التي تكون الرقابة عليها أقل عادة. لكن هذه الشاحنات، أو الصهاريج، لم تكن على الدوام بهذه الرفاهية، فكثيراً ما كان المهاجر يحشر فيها، وأحياناً يوضع في صندوق مخصص في صهريج، وقد يختنق مع طول المسافة وسوء المكان، وهو ما تعارف سابقاً على تسميته "صندوق أو شاحنات العراقيين" الذين كثيراً ما كانوا يلجؤون إلى هذه الطريقة في هروبهم. يقول كيروان، وهو كردي سوري، هاجر إلى النمسا قبل سنوات "وضعوني في مكان خاص في صندوق صهريج.. بقيت متمدداً هناك في مكان مغلق، لكن التنفس كان متاحاً فيه.. قضيت نحو 48 ساعة دون أن أتمكن حتى من قضاء حاجتي طيلة الرحلة". ويتابع "كان من المقرر أن أكمل الطريق إلى السويد، حيث كان الاتفاق أن يوافيني أحد الأصدقاء منها ليقلني من النمسا.. لكنني بعدما وصلت هذه الأخيرة، ونتيجة للإرهاق الذي عانيته فضلت أن أسلم نفسي لدائرة الهجرة فيها، وقد منحتني اللجوء، وأنا أعيش فيها الآن بارتياح". نهاية أم بداية يتصور كثير من المهاجرين أن متاعبهم ستنتهي بمجرد وصولهم إلى إحدى دول الاتحاد الأوروبي، وهم يركزون على هذه الخطوة فقط، فيما ما سيأتي لاحقاً يبدو متعباً أكثر، فمع التشدد الكبير في قبول طلبات اللجوء، لم يعد يكفي أن تكون من بلد يعاني الأزمات، بل ستكون مطالباً بتقديم ما يثبت الخطر المحدق بك. وتتباين الإقامات التي تقدمها دول الاتحاد الأوروبي بين مؤقتة مدتها سنتان إلى ثلاث سنوات، وبين الإقامة الدائمة التي تؤهل حاملها لاحقاً لطلب الحصول على الجنسية بعد مضي نحو 5 إلى 6 سنوات من إقامته في بلده الجديد. وتبدو الفوارق كبيرة بين الإقامتين، فالمؤقتة لن تؤهل حاملها لإجراء لم شمل أسرته المكونة من زوجته وأبنائه الذين لم يتموا ال18 عاماً من عمرهم، وهذا إجراء بالغ الأهمية لذوي الأسر، خصوصاً مع ارتفاع أسعار التهريب الذي يضطرهم للهجرة أولاً ومن ثم طلب لمّ شمل بقية الأسرة. وكانت وكالات الأنباء تناقلت قبل أيام خبراً عن طالب لجوء سوري في مدينة ميونيخ الألمانية هدد بإلقاء نفسه من فوق رافعة إذا لم يسمح له باستقدام أسرته من مصر، وذلك حسبما ذكر ناطق باسم الشرطة الألمانية. وظل السوري (31 عاماً) قابعاً فوق الرافعة على ارتفاع 20 متراً لمدة أكثر من 12 ساعة بلا طعام أو شراب في درجة حرارة 31 درجة مئوية، وهو ما جعل رجال الشرطة يخافون من انهياره وسقوطه، وقالت الشرطة إنه رفض جميع العروض التي قدمتها له، وإنها لم تستطع استخدام وسادة القفز لتلقفه بسبب وجود الرافعة فوق منطقة سكنية. وأكدت الخارجية الألمانية أن أسرة السوري تقدمت بالفعل لدى السفارة الألمانية في القاهرة بطلب السفر لرب الأسرة في ألمانيا ورفضت الناطقة باسم الخارجية التحدث عن مدى فرصة الأسرة للحصول على تأشيرة لألمانيا. ولم تمض سوى أسابيع قليلة على وجود الرجل في ميونيخ، حيث تقدم بطلب اللجوء، وحسب معلومات صحيفة "تاجز تسايتونج" في ميونيخ، فإن للرجل ثمانية أبناء. قصص مغرية.. وإحباط أمام كل هذه المخاطر، يحلو للمهاجرين فقط أن يروا صور النجاح الاجتماعي التي حققها من سبقوهم، حتى لو كانت صوراً محدودة للغاية. كما يسهم من نالوا طلب اللجوء في تعزيز هذه الصورة خلال إجازاتهم التي يعودون أحياناً لقضائها بين ذويهم. ويتغافل المهاجرون عن سماع قصص الفشل الكثيرة التي تصادف مهاجرين آخرين صادفتهم المتاعب والإحباط، والمعاملة السيئة، وعدم القدرة على الاندماج، وعدم إيجاد فرصة عمل. وتبدو الإعانات التي تقدمها الدول الأوروبية في تناقص مستمر، وهي بالكاد تسد الرمق وتلبي الاحتياجات الضرورية، كما أن معظم هذه الدول باتت تواجه متاعب في تأمين مساكن للاجئين، وقد تضطر أحياناً إلى حشرهم في مخيمات أو تجمعات بعيدة تمنعهم من الاختلاط بالآخرين، خصوصاً خلال دراسة طلبات لجوئهم التي قد تطول لبضعة أشهر أحياناً. ويواجه المهاجرون كذلك تعاملاً عنصرياً في بعض دول اللجوء مما يؤجج متاعبهم ويزيدها، وهو ما يبدو جلياً في نية بعض المدن السويسرية عزل طالبي اللجوء في معسكرات خاصة ومنعهم من ارتياد المرافق العامة مثل المسابح والملاعب والمكتبات، وذلك في خطوة وصفتها المنظمات المدافعة عن حقوق الانسان بأنها عنصرية. ويقول المسؤولون السويسريون إن هذه الإجراءات تهدف لمنع الاحتكاك بين طالبي اللجوء الأجانب والسكان المحليين. ومن المزمع أن يجري إسكان طالبي اللجوء في مراكز خاصة، معظمها معسكرات كان يستخدمها الجيش، وقد افتتح أول مركز بالفعل في بلدة بريمجارتن. وفي سويسرا حالياً نحو 48 ألف طالب لجوء ينتظرون البت في أوضاعهم. وقال عمدة بلدة مينزينجين السويسرية رومان شتاوب، في تصريحات نقلت عنه "ينبغي منع طالبي اللجوء من الوصول إلى "مناطق حساسة" مثل المدارس. وبرر كلامه بالقول "هذه مناطق خطرة، لأنه سيكون بوسع طالبي اللجوء مقابلة الفتيات والأولاد الصغار". وعلى الرغم من غضب المنظمات المدافعة عن حقوق الإنسان إزاء هذه الإجراءات التي وصفتها بالعنصرية، حسب مراسلة شبكة BBC، إلا أن سويسرا ماضية فيها. وتبلغ نسبة اللاجئين إلى السكان الأصليين في الدول الأوروبية واحدا إلى 625 بالمعدل، بينما تبلغ في سويسرا واحدا إلى 325.