بكل ما يحمله الإسناد من خفة وسخرية يختزل الشاعر محمد سيدي شخصية ديوانه (لعبة الأحرف) الصادر عن دار أثر في تعريفٍ يبدأ وينتهي عند نقطة التقاء العظمةِ بالضآلة. (لعبة) في ميزان هرم الوقار، (الأحرف) في متعلقات الصغار. إذْ يتخذ (المضاف والمضاف إليه) سبيلا آخر أبعدَ كلَّ البعد عن التقليدية الثابتة. وإذا اعتبرنا الثبات قيدا يستحيل أن يضاف إلى حركاته المحدودةِ رقصةٌ جديدة، فإننا سنُصعق أمام ظاهرةٍ مباغِتةٍ للسائد، ظاهرةٍ كسَرت الاستحالة، وأربكت معنى الثبات، وبَعثَت القلق من الرمس القابع في حجرة مظلمة في النفس! سيدي يخوض البحر نفسَه الذي خاضه ويخوضه آلافُ الشعراء المبدعين، مستمتعا بالتحدي الصعب، وساخرا من جبال الأمواج المزمجرةِ حوله، إن الشأن إذن ليس ذا خطرٍ يهبط فيه الأقوياء وهم يستحضرون الهولَ بجدية.. إنه مجرد لعبة، ومهما صعدتْ الوتيرة إلى الصعوبة فسيظل كذلك ، ومادامت هذه اللعبة قد أُسنِدت إلى الأحرف، فهي جديرة باعتبارٍ لا يقل عن مكانة الجديّة من الحياة.. لا أريد أن أتناول الطابع العام لديوان (لعبة الأحرف) بكلمات تمس الإيحاءات والظلال الشعورية من قريب ولا من بعيد، إنني أن أفعل فسيفوتني التنويه إلى المجال الشاسع الذي يمارس فيه محمد سيدي لعبته الصعبة.. مجالِ اللغة اليومية السهلة جدا، والأقرب إلى ألسنة الدهماء الملَطَّفين تلطيفا معرفيا غير جدير بالاعتداد، وهذا حق، أعرضه هنا التماسا للمقاربة. إلا أن العبقرية تنبض من هنا، ومن هنا تضخ دماء الطرافة الفنية المذهلة في جسد الديوان، وتحافظ على الروح الغامضة الجالبة للأثر الغامض اللذيذ، فتظل مضيئة تعمل أعمالها في كل نص! الأذكياء لن تَصْدر ابتسامتُهم عن المشهد الخارجي لنص سيدي، وإنما هناك، خلف تخوم القصيدة تجري شلالات من الضحك العريض، ستجرفهم إلى سفح المتعة والاستغراب؛ حين تُطل ملكات اللاعب المحيرة في كل جملة. إن الشاعر يلعب وهو يستلقي، ويُمتع وهو في طريقه إلى شؤونه العادية، ويجذب الانتباه الشارد جذبَهُ للانتباه الحاضر! هل أقول إنه أدرك سر الإعجاز في الكلام؟! إنه في نظري تجاوز هذا الأفق قليلا، وليس لي أن أعتبر هذا التجاوز أمرا عاديا في بابه! الديوان يضم خمسا وأربعين قصيدة نثر قصيرة، في 79 صفحة، والقصائد الخمس الأخيرة في الديوان جاءت تحت عنوان (إيقاع آخر).. وهي تختلف عن غيرها في مستويات القراءة وفي المراحل التي ستجتازها رحلة الدلالة إلى القارئ من النص إلى المعنى، إلى معنى المعنى... وهكذا. في قصيدة (الخزينة) تأخذ حالة الشعور بُعدا آخر في الفن، ينتمي إلى السائد الشكلي لقاعدة قصيدة النثر، الخاضع لثنائية الغموض والتكثيف: (رأيتهم على قارعة الوقت/ يستمطرون سحابة مترعة بالدم/ يتفاءلون بصباح غارق في الحلكة/ بنساء يتَمَنْطَقْن بالسيوف الصدئة/ بنجومٍ لا تبزغ إلا بعد الحزن...) ص59 سيدي شاعر كبير، وِفقًا لكل المقاييس التي تَرجع إليها الفنون العظيمة، وليس أدل على ذلك من إقدامه على طرح أول أعماله الشعرية (لعبة الأحرف) من جنس شعر النثر، المتململ على الرُّسوّ في ميناء الأجناس الشعرية، رغم تنوع تجربته ومراودته لجميع ألوان القول المتفق عليها والمختلف فيها... وفي اكتظاظ المشهد بالأصوات واحتشاده بالرواد، يظل الأكثر إخلاصا للفن هو من يستحق أن تَشْرئب إلى همسه الأعناق. وإنّ إيقاعا بهذا الجيشان لن تمتصه التربة دون مردود أليق، وللاعب الأحرف أن يوقد المدفأة، لتُكافئه الفراشات بالتدفق في حجرته من كتلة الجمر الملتهبة. *شاعر سعودي