حين صاح ذات قصيدة قائلاً: «أنا منهوب» كان الشاعر الأردني زياد العناني لحظتها يعلن انه حط في منطقة الجمر وفداحة المشهد، وأن رؤاه بدأت تذهب في البعيد عن الساذج الشعري لتسكن في دهشة النطق وحل أحجية الطلسم، ولتسكب جملتها الشعرية في عظم القصيدة ولحمها. والمتتبع لتجربة زياد العناني الشعرية لابد وأن يكتشف قدرة الشاعر عناني على أن يؤكد مستوى قصيدته الشعرية، التي ارتهنت لقصيدة النثر، وأن حفره الشعري سيدعم عمق تجربته الشعرية، ويؤكد أن «النهب» الذي أعلن عنه هو بداية الوقوع في المشهد المفزع والجميل للشعر. التقينا الشاعر عناني وكان هذا الحوار: ٭ كيف كان حادثة الاحتكاك الأول مع دهشة الكتابة؟ ولماذا كانت قصيدة النثر ملاذك الكتابي؟ - لا أذكر حادثة بعينها، ولكني بدأت الكتابة بعد أن أدركت بأنها لذتي التي أسعد بها ولساني الذي يترفع عن المنطوق. لقد كنت شغوفاً بصمت الكتابة وهدوئها ورحت أكتب لذاتي وذاتها، ولم يدر بخلدي انني سأصبح شاعراً، كل ما في الأمر هو أن أحقق فرحي الخاص وأحس بوطئة المختلف إلى أن قيل لي بأنك تسبح في كيمياء الشعر، كنت أعرف ذلك في حينها، ولكني كنت محتاجاً إلى هذا الصوت «التوكيدي» وبعدها وجدتني أكتب وأنشر وكانت قصائدي في حينها تنتمي لقصيدة التفعيلة. في بداية التسعينيات بدأت أنزاح إلى قصيدة النثر.. إلى المعنى، وصرت أمقت الصوت التطريبي البحت والغنائية الباهتة، ولم يكن ذلك بسبب صعوبة أو سهولة الوحدات الصوتية التي تشكل التفعيلة، لقد كنت متلهفا جداً للفضاء واحتفي بنزعة التجريب، ولم أخف من فكرة الرواسب العالقة بين الأجناس الأدبية، وكنت افرح بالقدرات التجريدية المتوزعة في ثنايا النص وأسخر من الشتائم التي لم تفهم أو تتفهم كونية الايقاع. ثمة ايقاع في قصيدة النثر يعتمد على المنشأ الواحد للوحدات الصوتية المعروفة والموجودة في قصيدة التفعيلة من حيث «الحركة والسكون» وكنت أذكر بطرقات الطبال الزنجي التي كانت تتنوع وتتابع ولا تقف عند ضربة واحدة ذات طول واحد يتكرر دون أن ينتج الايقاع. لقد دافعت ونافحت عن قصيدة النثر من خلال عدة دراسات ومقالات منشورة، ذلك أنها قصيدة مكثفة ويجري في كيانها نسق معرفي وخبرات قديمة وجديدة تقدم «المعنى» على «لعبة» تراقيص «الحواجب» التي تمارسها بعض القصائد التي تريد ان تضم الموسيقى الى الحقل الشعري بقوة السلاح رغم انها حقل آخر منفصل يمكن ادخاله إلى القصيدة واستبداله بالايقاع لا يمسك بمجامع الكل وليس شرطا ان يمسك به. ٭ ثمة اشكالية عامة في قصيدتك ممثلة ب «المرأة» كيف ترى الأمر؟ - للمرأة عندي متحف مفقودات دائم، كلما ربحت امرأة أخسرها هكذا هو الأمر، في حلمي ثمة امرأة كونية أشمها وأضمها في كل الأوقات وأغوص في فوضاها الداخلية وفي كيانها الراعش والساحر والمسحور الذي يشكل الشعر كله، ويشكل رغباتنا المشتركة والمحرومة (في أغلب الأحيان) من معرفة تلك الدواخل والغرائز التي تستثمر نداءات الطبيعة التي نحتفي بها وتحتفي بنا. ها اني أنظر إلى المرأة بعيني، ويدي وأعماقي وفتحة مخيالي، لم تبق منطقة لم نلعب بها، لم تبق غرفة نوم لم اتخيل قلة الاضاءة فيها أو كثرتها، لم تبق مسامة لم استنطقها عن روائح العرق، لم يبق غسيل لم أسرق ألوانه بأصابع عيني. كل هذه الحيوانات تجتمع في سلة رأسي - وفي شرفة المرأة التي أحبها وأكرهها وأكرهني في وقت واحد. - ما السائد الذي تريد من الشعر هذا الكيان الجمالي أن ينقذه؟ - على الصعيد السياسي لم تعد القصيدة خطاباً أو بياناً حزبيا يلتحق أو يلحق بالعربات السياسية حتى اللهاث، كما لم تعد أغراض الشعر القديم قائمة لانها فقدت مسوغها الحضاري. أما التطهير الذي نتحدث عنه فهو نسق متوغل في الغرضية ايضاً، ولا مجال له الا في حاضر الغيب. إن القصيدة التي نكتبها الآن هي قصيدة الطاقات المؤتلفة والمختلفة التي يتشكل منها الانسان لجوانبه الوجودية والساعية الى التحرر من أدوات المنع ومن المكبوتات والاستنطاقات اللغوية التي تفتقر الى المعنى الذي يقف مع الإنسان الذي أرعبته الشمس مثلما أرعبته النجوم وارعبته النار كما أرعبته وحوش الغابة والزلزال، وتكونت معظم معارفه على خلفية هذا الرعب الذي رافق البدايات الاولى الى أن سقط في فخ الخطيئة التي علم بها متأخراً، وكذلك الذنب الذي ترفض تكريسه القصيدة الحديثة المعنية بالشعر الخالص الذي يحتفي بأنسنة الكيان الكلي للانسان الذي يمثل كامل المركز. و عليه أقول: التطهير من ماذا ولماذا؟ «الى الآن لم التفت إلى اخطائي بعين عسكرية، الى الآن لم أجد أي ضرورة للتعامل مع أعماقي وكأنها حقل الغام». «لقد عشت في ظل أخطائي التي لم تأت مفردة بل جاءت مع الفرح. ٭ هل استطاعت قصيدة النثر تجاوز اشكاليات حدوثها عربياً وتجاوز الخط النقدي السائد عنها؟ - نعم.. «لقد اسطاعت قصيدة النثر تجاوز اشكاليات حدوثها ، ولم تعد بحاجة الى حالة «اثبات المشروعية» من بعد أن احتلت الرقم الاول في الملاحق الثقافية كشكل ابداعي معرفي متقدم وفي المهرجانات الشعرية التي صارت تبتدئ بها وتنتهي بها. أنظر الى الملاحق الثقافية العربية. انظر الى المجلات الثقافية العربية، انظر الى التطور الأخير الذي جعل من أعداء قصيدة النثر يكتبونها، ويدعون أنهم كتبوها. ويحتجون «بخواطرهم» القديمة التي لا تنتمي الى قصيدة النثر لعدم اكتمال الشروط الفنية التي تجعل من قصيدة النثر قصيدة كاملة.