تأخذ اللوحة البصرية الحاضنة لرواية "مجاعة" لجابر محمد مدخلي، الصادرة عن دار طوى في 96 صفحة، لندن 2013، القارئ من خلال التجريد إلى دلالات رؤيوية عميقة قبل أن تُدْخِله في متاهات السطور والهوامش، تجريد طَمَسَتْ فيه الفنانة التشكيلية "راما جاموخا" عينا وأبقت الأخرى كتلة سواد، وكأنها كأختها لا إبصار فيها سدها العوز والخوف، جاء الغلاف بلونه البني الفاتح كمقاربة للون الرغيف، مع تشكيل بياض على الوجه وكأنها مساحات حلمية، زحف اللون البني المحروق لاستباحتها، ووأدها قبل ولادتها. السارد في الرواية يكشف معنى المجاعة المخالف لرمزيتها في الذهنية الجمعيّة للآخرين، التي تتضمن الحاجة للقمة والزاد، لكنه ذهب بنا لأبعد من ذلك، ليؤكد أن المجاعة قيميّة تحف بنا من كل حدب وصوب، وافدة دخلت البيوت من دون استئذان عبر الشاشات، وما نحن سوى أبطال جري نتسابق نحو التقليد الأعمى دون محاكمة عقلية. اشتغل الكاتب على الصورة، دمج الخاص بالعام، حاول لملمة ما أمكنه من التفاصيل الصغيرة المستمدة من المكان لتسرد هذه التفاصيل، حركتها الخفيّة في الصدور، والظاهرة على الملامح بالإيحاء، من خلال الركض نحو أي شيء، وكما وصف تناول "نجاة" آلاف الحبات السوداء، ولم يكتبن لها الشفاء، ودلالة اسم نجاة موفق فيه لكن لا نجاة. صوّر تغريبة التقليد الأعمى، ودورها في تصور ضياع السارد. "العرب بحاجة الثورات المستوردة، والصيحات المعلبة، والربيعات المزيّفة، دائماً الجميع بحاجة ماسة لأي شيء، وأي شيء بحاجة للجميع". ويصرّ السارد على الانعتاق مما وقع فيه، والتفرّد في الفعل الإنساني، لأن التكرار، كفعل الاجترار حركة دائمة لكنها في المكان، تعمل على حرق الزمان، ويؤدي بالمحصلة إلى الركود والضياع في زحمة الوجوه. "نجاة" التي لم يكن من اسمها نصيب، تعاني من اللانجاة، ملتحفة بالبكم وفي عينيها ترسم أنصاف الأشياء "أنصاف خطوط، وأنصاف حظوظ"، وكأني بسارده يقول: حتى الأنصاف المرسومة لن تصلها كاملة، هناك أفواه نهمة تلتهم الحياة ودورتها. وهنا يلجأ الراوي على إجبار السارد على تصوير المكان وشخوصه ووصف طيبتهم، وكرمهم رغم فقرهم وعدم إغلاق أبوابهم، وكأنه وظّف سارده ليعمل دليلاً سياحياً في محاولته التوصيف والتعريف، وهنا تحسب للكاتب ميزة الترويج عن المكان وشخوصه، أي نقل القارئ للمكان عبر فتح نافذته التخيلية. المجاعة قسمها لثمانية ولو اختزلها في سبعة لاستفاد من الرقم ودلالاته، سبع سنوات عجاف، سبع سنابل، السبع المثاني، أيام الأسبوع، سبع سماوات، لاستفاد من الرقم 7 ودلالاته ورمزيته لدى الشعوب كما أوردته الأساطير.