لم يحدثني يوما عن وطنه.. كنت أسمعه يقول: الأوطان التي نهرب منها نهارا ونعود لها خلسة مع العتمة لا نستحقها. إلا أنها تغفر.. لا تحمل بين تربتها أحقادا كما نفعل نحن مع بعضنا. مع الفجر يخرج إلى مزرعته كريشة طائر .. يفرك وجه الصبح بلحيته وخشونة قدميه .. يدوس التراب البارد برفق وكأنه يخشى عليه الاختناق. ينحني بجذعه نحو الأرض كعاشق أسمر، ويثني ركبتيه ببطء ويتناول حفنة من نباتها يضعه في جيب قميصه الأبيض وهو ينشد لحناً من شجن. يقول: على هذه الأرض وقفت صغيرا، وعليها تناولت سنيني، وها أنا اليوم أستقبل نهارا قد يكون الأخير. ما أصعب أن تودع كل الأصوات التي كانت تسامرك، تغني معك، وتناديك عندما تبتعد كي تخرج من غيابك. تدفنهم بيديك، ومن ثم تدير ظهرك عنهم وكأنهم لا يعنون لك.. إنها حياتنا نشم فيها اقتراب الموت كما نشم المطر. علي أمقاسم.. شبح بسيط من زمن المطحونين في الأرض. عندما يحكي عن زوجته التي سرقها الطاعون فإنه يموت آلاف المرات .. لا يتوقف عن فرك عينيه بشموخ الذين يؤمنون بأن البكاء على الأحبة لا يجلب العار. ما زال يتذكر شجرة الريحان التي غرستها إلى جوار باب الدار الذي تكون حولهما من ألواح وأعمدة خشبية وبعض الحبال البالية. أخبرني يوما أنه على مشارف الموت، لم يعد لديه متسع من العمر ليحلم.. وأنه لو كان باستطاعته أن يحلم لتمنى أن يلحق بشريكته ليهديها ريحانتها التي كبرت لتغرسها إلى جوار ريحانة الجنة التي أهداها لها الله. قبل الغروب يمشي طويلا وكأنه يعيد حساب خطواته التي نسي أن يحسبها؛ لأنه فقدها من شدة العطش والجوع والخوف.. وربما لحزنه على من سقطوا خلفه. عندما خرجت من قريتي أقتفي أثر المدينة كان هو ما يزال ظلاً يقترب من ساعات الغروب الأخيرة. يجلس طويلا إلى جوار شجرة الريحان وعندما تشتد الشمس ينتقل ليجلس في ظل جدار بلا ملامح . ظلٌ عجوز يجلس في ظل جدار أوشك على الفناء. لا يتذكر الوجوه كثيرا ومع ذلك هو يبتسم لها وكأنه يأذن لها بعناق أخير ينهي عطشها بعد مشوار طويل من الجفاف. يقولون إنه اختفى، بحثوا عنه ولم يجدوه. يروي ناصر الأعرج أنه آخر من شاهده يمشي نحو الغروب كعادته قاطعا طريق الوادي نحو الأسفلت، لم يعد بعدها. ربما أنه عندما شاهد الصباح توكأ على أول ضوء عابر .. ومضى لم يلتفت لأوراقه التي بعثرتها الريح هو الآن لا شيء مجرد ظل واختفى. وفي المساء كانوا يتحدثون عنه يقولون إنهم شاهدوه خلف الظلام كطيف أبيض.. كركام الورق المنثور. كان مجرد ظل يجلس في ظل .. والظلال لا تبقى كثيرا ترحل دائما مع الشمس والضياء. حتى الريحانة التي كانت تغازله برائحتها وأغصانها كلما مر إلى جوارها نفضت أوراقها وانحنت حزنا عليه. لا أحد يعرف إلى أين ذهب علي أمقاسم والأسفلت الذي أغواه لا يجيب.