إذا أردت أن تعرف "عشق المصطافين" لعروس البحر الأحمر "جدة"، فما عليك إلا أن تيمم وجهك شطر المنطقة المركزية بالبلد، أو كما يطلق عليها ساكنوها "جدة التاريخية"، أو لقبها المارثوني السنوي في إجازة منتصف العام "لؤلؤة ربيع جدة"، نظراً للإقبال المتزايد عليها صباحا، وإن كان اكتظاظ المصطافين عليها أكبر في الفترات المسائية لاعتدال الأجواء.. هناك يمكنك أن تسمع كلام "العاشقين" لجدة القديمة علناً وليس همساً، كقاسم مشترك بينهم أجمعين، حيث تتركز استفساراتهم على "كم عمر هذا البناء؟"، و"كم العمر الزمني لهذا المسجد؟"، و"ما هي أقدم المحال التجارية في سوق الندى؟"، وهل مازال البناؤون ومعلمو البناء أو المهندسون التقليديون، على قيد الحياة؟.. وقائمة طويلة من الأسئلة التي لا تنتهي عند زوار العروس في هذه الفترة من الإجازة. لا تكاد تجد موطئ قدم فسيحا لك لتتحرك بين أسواق جدة القديمة التي تحولت إلى "كاريزما سياحية" لجدة بامتياز، نظراً لتاريخها العريق، "كسوق البدو" الذي يمتد عمره لأكثر من 140 عاماً، ويقع إلى الجهة الشرقية من سوق العلوي. وكان سكان البوادي ينيخون جمالهم على مداخله في الماضي ليشتروا منه ما يحتاجونه من بضائع لمعيشتهم من حبوب وهيل وبن، إضافة إلى الذهب والفضة والمعادن.. هنا لا تستطيع أن تفصل السياح الأجانب عن المصطافين القادمين من مدن المملكة المختلفة، فكلهم يسيرون ب "خارطة طريق"، يمكن أن يقال عنها إنها واحدة، فلقطات الكاميرات سواءً بالأجهزة الفوتوجرافية الحديثة، أو بالهواتف النقالة الذكية، لا تفارق الجميع، الصغير والكبير.. يحاولون جاهدين بقصد أو بغير قصد رصد "تاريخ لا يزال صامداً" في وجه عوامل تعرية نسيان سكان العروس لهذه المنطقة الحيوية، التي رشحتها هيئة السياحة والآثار في الثاني من مارس الجاري عبر تقديم ملفها إلى منظمة اليونسكو المعنية بقوائم التراث العالمي. الكتب التي تحدثت عن تاريخ هذه المنطقة كانت بمثابة المرشد السياحي للمصطافين، فحضر كتاب المؤرخ الشهير عبد الله مناع "جدة تاريخ ما لم يؤرخ"، وكتاب آخر "معماريو جدة القديمة" للكاتب عبد العزيز عمر أبو زيد، في ظل غياب لمرشدي أمانة المنطقة التاريخية. أصحاب المحلات قاموا بدور الإرشاد حول أقدم المساجد في المنطقة التاريخية، فالمحال المقابلة لمسجد الشافعي الذي يمتد عمره لثمانية قرون، تحولت هي الأخرى بالنسبة للمصطافين إلى مركز حيوي مهم لمعرفة تفاصيل الماضي العتيق لهذه المنطقة، التي ما زالت تحتفظ ب"روحها في زمن العولمة"، بل وأضحت منافسة للمولات التجارية العصرية، بل وحتى الملاهي الترفيهية، حيث تتصدر هذه المنطقة قائمة الزيارات لكثير من العوائل التي تقصد العروس في إجازتها الربيعية. منظر العوائل يكاد يكون المناخ العام لزائري "تاريخية جدة"، فتجدهم بين أزقة الحواري القديمة، يجترون ماضيا عريقا تزخر به هذه المنطقة.