"مراجعات ومقاربات في الأفكار والنماذج ج(1)" للدكتور أحمد بن علي آل مريع، كتاب يجد قارئه منذ صفحاته الأولى استنتاجات طريفة وملاحظات مهمة ودالة انتظمها منهج علمي دقيق في منواله النظري وصارم في نموذجه التحليلي، لكونه انطوى على أفق معرفي لمقاربة مسائل إشكالية وآنية تتصل بالهوية والتراث وقراءة النصوص الإبداعية وأوجه جمالياتها، وكذلك الشأن بالنسبة إلى مسائل فكرية آنية، مثل الحوار والحرية ومسائل التربية المعاصرة والتفكير وتحليل الخطاب في علاقته بالراهن وتطور المعرفة وتعقد مسائل الحياة المعاصرة، ومن هنا جاء قول آل مريع في المقدمة هذه: "إن للمعرفة سلطتها، ولذلك تتجه هذه القراءات / المراجعات إلى المكاشفة والتمييز، كما تحاول أن تقترح الأفكار، وتطرح بعض المشروعات المهمة وغير الناجزة". وقد اتخذ من مضامين الخطاب التقليدي مجالا لهذه القراءات، وهذا ما يدل عليه قوله: "مازال الخطاب التقليدي في كثير من وجوهه وممارسات رموزه ومؤسساته يختزل خصوصيتنا المهضومة في حيز الحرف "لا"، ويقدمها كآلية جامدة رتيبة يتوسل بها للحظر والمنع والحجز، ويتجاهل أو يغفل عن الوجه الخصب منها، وهو خيار الخصوصية المكلل بالمسؤوليات، بوصفها منظومة من الوعي المنفتح عن الحياة الطيبة". لقد كانت مثل هذه المقدمات بمثابة الأسس التي دفعت بالمؤلف إلى طرح مشكلة التطرف الفكري والديني وهل هو من أسباب الجهل أم من أسباب العلم أو بالأحرى ادعاء العلم إذ "التطرف بطبيعته الثقافية ومكوناته الفكرية غلو ينشأ داخل الثقافة نفسها، معتمدا على بعض أبنيتها القارة والفاعلة". كذلك "يمكن أن يكون العلم سببا من أسباب الفتنة إذ أخذ بغير حقه، ولم يقترن بالحكمة والخلق الكريم، أو خالطه شبهة وهوى". ويشخص المؤلف مظاهر ذلك في واقعنا المعاصر، مبينا "كيف أننا وقعنا في تساهل وخلط كبيرين فاستوى لدينا العالم وطالب العلم، والقاص والمذكر والواعظ، وحامل الفقه والفقيه الراسخ في العلم". ومن ثمة يقترح ضرورة إحلال ثقافة البحث والنظر الفقهي المبني على الدراسة والاستقصاء والاجتهاد الجماعي، مكان ثقافة الفتوى الفردية والنظر الآني مع إحياء نشاط المراجعات العلمية لأفكار العلماء الرواد، للطروحات التأصيلية، ويتوافق ذلك مع ضرورة تبصير الناس بالفرق بين الرأي ووجهة النظر، والفتوى الشرعية المحققة بالنصوص، وبين الفتوى العامة والفتوى الخاصة مع تبصير الوعاظ بأساليب الدعوة الحكيمة. وإذا بحثنا عن معالم النموذج النظري الذي يريد مؤلف كتاب "مراجعات ومقاربات" إرساءه أفقا لذلك، ألفيناه يؤكد أهمية الانطلاق من النصوص الشرعية في ثقافة واسعة ومعرفة متينة بأصول الدين وقواعد الاجتهاد والنظر بالأحكام والمسائل وكل ما له صلة بمقاصد الشريعة، وفقه الواقع في تحولاته ودقائق إشكالياته كذلك الوعي بمآلات الوعي رغبة في تأصيل مسألة النظر الشرعي وصناعة الفتوى لتجاوز مشكلة النظرة الضيقة والمتطرفة للأشياء، ذلك أن التلقي غير المنضبط وغير الواعي للعلم ونصوص الفتاوى سبب كل خطر. ويخلص المؤلف انطلاقا من طرحه للمشكلة على هذا النحو وبناء على نظرة فاحصة ودقيقة للواقع في تمفصلاته الإشكالية أن اعتماد معقولية النظر والتفكير في الأمور والحقائق وفي معاني الآيات ودلالاتها أمر على غاية من الأهمية، وهو ما أدرجه ضمن مفهوم الاستنباط، إذ الاستنباط في نظره مرحلة فوق الفهم والشرح والتفسير تتجلى في مواجهة النص المحكم والمنطوق الجلي، والاستنباط في نظره يكون في المدلول عليه، وفي ما وراء النص، مما يتوسل إليه بالاستنباط والاجتهاد في ذلك، وهذا من شأنه أن يجعل من العقل حاضرا وفاعلا في عملية التشريع بالاستنباط الدقيق وفق مراد الله عز وجل ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم ومقاصد الشريعة، لكن ليس كل عقل أهلا لذلك، بل هو العقل الرباني الراسخ في العلم الحاذق بالنصوص البصير بالشريعة. وينجم عن هذا التجديد في مفهوم الاجتهاد، احتياط في الإفتاء، بل اقتصاد في الفتوى، يؤثر تبليغ العلم الشرعي كما هو في مظانه وأصوله واقتصاد في الإفتاء. * ناقد وباحث من تونس