لست أعلم لماذا كلما حط بيننا فصل الشتاء رحاله، وقرر المكوث ليسربلنا بصقيعه، ويعيشنا مع درجات البرودة وأحوال الطقس، تارة فوق الصفر وتارة تحته، وينعش رئاتنا بهبوب نسماتها باردة، ويحيل أجواءنا إلى أيام مربعانية، نعيشها مع مطالع نجومها الباردة جدا، لنجافي النوم ولو قليلا في ليال شتوية تسطو على ساعات النهار لتطيل في عمر ساعاتها، (دوما) ما ألفي نفسي مجبرة للتوقف مع ألحان حديث ممزوج يبحث عن دفء الذكريات، بين شتاء وشتاء، مع مشاعر تستيقظ من سباتها، ليست قرصات البرد وحدها من توقظها، لكنها تتحرك حين تبعثها من مرقدها. صور وحكايات، أجدها تدخل الدفء إلى مفاصل جسدي النحيل لتعزف (تراتيل ليلة شتوية) في حديث لا ينفك عن حياة وحياة، عن شتاء وشتاء، عن أشخاص ومواقف، وعلى لساني كلام لنزار قباني "إذا أتى الشتاء.. وانقطعت عندلة العنادل وأصبحت.. كل العصافير بلا منازل يبتدئ النزيف في قلبي.. وفي أناملي"، تراتيل تعزف لحن حديث وحكايات، قصص وقصائد، تسكن في أخاديد قلبي العاشق للماضي بكل صوره، والذي سأظل وفيا له مهما قيل عني بأني قد توقفت عنده وهمت به، رغم جماليات الحاضر، ففيّ حنين تسوقه مشاعر، وترويه دموع شوق تأبى إلا أن تنسدل كقطرات مطر تداعب خدي، تنعش نفسي شوقا لصبا ولى، وزمن فات، وعمر بدأ يتصرم، ولأصحاب منهم من رحل عن دنيانا إلى رب كريم، ومنهم من غادرنا في متاهات الدروب لكنهم باقون في فؤاد يسكنونه، لهيب شوقه لهم مازال متقدا، وسيل حنين نفس لهم جارف، للقاء بهم في ليالي الشتاء نكهة خاصة، حيث يحلو معهم السمر بجانب "السمر والتمر" في "ليلة شتوية لا تنسى" نتسامر فيها كأصدقاء وأحباب، نشعر بأنه مازال يسكننا الشوق لبعضنا بعضا، كما الحنين للأمس يسكننا، لنعزف معا معزوفة الوفاء الذي نحاول الإبقاء عليه، وهل هناك أجمل أو أشهى من مشهد الليلة الشتوية! "مدفئة نار، حطب مشتعل، رائحة مطر يدق نوافذ المكان وأبوابه، فناجين شاي ساخن بالحبق تدور، أصدقاء أتعبتهم غربة السفر في دروب الحياة، وقد اندلق من أعينهم بريق أحاسيس تكاد تتكلم شعرا ونثرا، بمشاعر صادقة، وفرحة قاصية بشوق اللقاء"، ولمثل جو بهذا الجمال لا شك في أن تنهمر الأحاديث كانهمار الودق، فتبدو الذكريات بالسباحة فوق الشفاه الباردة، الظامئة للحديث، تنزف مخزونها من زمن رحل، وكما قيل "وذو الشوق القديم وإن تعزا .. مشوق حين يلقى العاشقينا" فيبدأ الصحاب بالإبحار في سفر الحكايات، يناجون فيها القمر، ويستعيدون في ليلتهم عبق أزاهير العمر، ويسكبون في أحداقهم أحاديث الأمس المنقوش ببراءة هاتيك الأيام وطهرها، عندما يتبادلون شيئا من ذكريات لم تبرح نفوسهم، لكنها بقيت محفورة في صفحات أعمارهم، وكأنها كنوز يفتشون عنها، أو وقود يحتاجون التزود منه كلما شعروا بحاجتهم للتزود لاستكمال السفر الحياتي، ذكريات يرونها حلوة مهما كانت بمخزونها الممزوج بالفرح والحزن، الملونة بشيء من الطرافة واللطافة، يستعيدون فيها ملامح لذكريات المدرسة وأول يوم ذهبوا فيه إلى فصولها، أول علقة من المدرس أكلوها، شكل المدرسة والدراسة، هدايا العيد، ملعب الحي، عطلة الصيف، نتائج الاختبارات "الدواويح" الحمر، برامج التلفزيون، أول سفرة خارج المكان، الركوب الأول للطائرة، الغربة الأولى، "سواليف كلها بدمغة الزمن الجميل" تسري الدفء في عظام نهشها البرد، وبين كل حكاية وحكاية، ترتفع "زغرودة" الصحاب والسمر "آه راح الطيبين" إنه طعم اللقاء الذي لا تفسده برودة الشتاء القارس مهما جثم بكلكله في العظام، هكذا أجدني مع ليالي الشتاء.