حل الشتّاءُ علينا قبل فترة من الزمن ، ولم يلتفت إلى اختلاف الفلكيين على موعد دخول "المربعانية " فقد عاد إلينا وعدنا إليه ، ودخل بقوة مرسلا لسعات البرد القارس ، مخترقا " البطاطين " ذات الطبقات السميكة ، ومتجها كالقطار الصيني "الطلقة " ، نحو العظام ولا غير العظام يريد ، ومتسللا بخلسة من خلف " مشبات" النار رغم أنف ألسنة نيرانها المتطايرة من جمر "السمر والقرض " ورغم أنف " الدفايات " الزيتية وغير الزيتية ، المنتشرة في زوايا غرف المنزل ، مسجلا تفوقا على كل أنواع أسلحة الحصار من التدفئة ، في ألا يصل إلى الأجساد التي ارتمت وسط " البيجامات" القطنية، وتدثرت بالعباءات " الوبرية " والفروات " الصوفية ، ،عازما في أن يصل سريعا إلى هدفه في ( هدَّ ) حيل الجسم ب "الانفولونزا " وفتح الطريق أمام أمراض "الروماتيزم" بكل أنواعها ،لكن رغم شراسته ، فهناك وجه آخر للبرد يعشقه "هواة الليل " رغم هجومه القارس فهو يسجل نجاحا في لم شتات الأصحاب والأحباب ، ويعود ليسكب "السامرون" أحاديثهم في المساءات الجميلة ، بساعاتها الطويلة ، حول مائدة ( النار) "فاكهة الشتاء" وما اصدق القائل : "النار فاكهة الشتاء فمن يرد ..أكل الفواكه شاتيا فليصطل" ،إذ تقوم النار بإرسال الدفء إلى الأجساد المتشوقة للإحساس بالدفء ، فتبعث حرارة الرغبة في الكلام من أفواه المتحلقين حولها، وسط ضجيج الضحكات ، وحنين الذكريات ، "وبراد الشاي " المغلي على جمر النار، لتدور عجلة الكلام وهي تستدر من ضرع السنين آمالا وآلاما وأحلاما، و مواقف وصور لأحداث ورجالات وأطلال دفنت في ( أعماق ) ما مضى من العمر الذي تحرك أشواق الحديث عنه دموعٌ، ارتمت في وسط الأحداق ، واحتضنها الشوق في داخل النفوس " الشفافة" المشتاقة لزمن مضى ، مضى تاركا الحسرة للباكين عليه ،يشرقون بدمعهم بعد أن تولت الأيام وطوت السنوات صفحاتها ، على عمر تولى، وشباب رحل، وطفولة كانت تظللهم ، وكأن لسان حال كل واحد من السمار قول الشاعر المتنبي : "وما ماضي الشباب بمسترد .. ولا يوم يمر بمستعاد " ،ولعلني أذكر لكم أنه قبل يوم أو يومين ،في ليلة اشتد زمهريرها ،حتى فاق احتمال جسدي بردها ،وقد أمطرت السماءُ، فأمطرت علينا كميّةِ الذكريات ، تذاكرت مع صديق مقرب حديثا عن الأكلات الشعبية التي يفوح بخارها فيشع الدفء أرجاء المكان، أكلات كانت تسود على موائد الشتاء "كالعصيد والمرق، والحنيذ ، والمرقوق والأكلات الشعبية المشبعة بالدهون كالعريك والمشغوثة وغيرها "، وكذلك المشروبات الساخنة كمشروب الزنجبيل والشاي بالنعناع ، وأنا أذكر هنا من باب الطرافة قول شاعر قديم أحسبه ممن يشابه نحافتي ، ولا يقوى على مقاومة البرد الذي يخترق أضلاع الصدر ، عندما قيل له ماذا تريد أن نطبخ لك فرد "قالوا اقترح شيئا نجد لك طبخه ..قال أطبخوا لي جبة وقميصا " ؛ ولو كنت مكانه لقلت "هلموا إلي المرق والعصيد " لكن صاحبنا الشاعر، لم يكن همه وتفكيره ،إلا كيف يحمي ما تبقى من هيكله بجبة وقميص، وليته رأى اليوم ممن يحملون أضعاف أوزانهم من "الفراوي والبالطوات " حتى أن أحدهم صلى إلى جواري ،فأحسست أنني لن أكمل الصلاة إلى جواره فقد كاد أكثر من مرة "يغطني" بفروته التي بالكاد يحملها ، وهو يجمع شتاتها يمنة ويسرة ، أما الصغار وقد طالهم حديثنا فقد كانوا يفرحون بالبرد غير عابئين بأضراره، فقد كانوا يفرحون حينما تهطل الأمطار الشتوية، فينشدون أغنيتهم القديمة "يامطرة حطي حطي ، على قريعة بنت اختي ، بنت أختي جابت ولد، سمته عبدالصمد ... " إلى أخرها وحتى نلتقي مع حكاية أخرى لكم مني سلام