ما إن تدخل السنة الهجرية الجديدة وتبدأ أشهرها بالتسارع صوب رجب حتى يشعر بعض الناس بالقلق وتنتابهم الرعشة من التقاعد، هذه الفئة من الناس هم (المحنطون) على الكراسي من بني البشر، وهؤلاء سواء كانوا من الإدارتين الوسطى أو التنفيذية، ترتعد أطرافهم ويختل توازنهم كلما اقترب شهر التقاعد، ولو بحثنا عن السبب لوجدنا أن أولئك الرهط البشري لا يؤمنون بالتقاعد ويعترفون به، فأعمالهم وسلطاتهم - كما يظنون - لا ينهيها سوى القدر، لأنهم يعطون ذواتهم الديمومة والبقاء، ويمنحون أنفسهم التميز عن بقية العاملين، ويعتقدون (وهماً وزيفاً) أن التصاقهم بكراسيهم سيحقق النجاح لمنشآتهم التي ينتمون إليها، بل ويذهبون إلى أبعد من ذلك بنظرتهم (القاصرة) فيظنون أنهم المعنيون ببقاء تلك المنشآت في مواصلة تقديم الخدمة بالشكل الصحيح، ولو تمت إحالتهم للتقاعد لانهارت المنشآت وغربت شمسها وعجزت عن القيام بواجباتها، وذلك لعدم وجود البدلاء الأكفاء الذين يعوضون فراغهم الوظيفي الأسطوري! ولم تدرك عقولهم المتحجرة وأفكارهم المتكلسة، أن وجودهم أصلا في خريف العمر على مواقع المسؤولية ليس إلا عبئا على تلك المنشآت، ولو راجعوا حساباتهم ووقفوا مع أنفسهم وقفة صادقة وصريحة، لوجدوا أن ما يدعونه من نجاحات – إذا وجدت – إنما هي من إنتاج غيرهم من صغار الموظفين الذين يصعدون على أكتافهم، فأغلب الموظفين المتحمسين والجادين عندما يبتكرون أو يقدمون ما يحقق المصلحة العامة، يسارع المحنطون بالتصدي لكل ذلك ومحاربته بحجة مخالفة الأنظمة، وإذا قبلوه تحت أي ظرف نسبوه لأنفسهم، في حين أن السبب الحقيقي من هذا التصدي هو حقدهم على المبدعين وغيرتهم من تفوقهم عليهم، وعدم استيعابهم لكل جديد ومتطور. ما أود أن أصل إليه في هذه المقالة أن أنظمة الخدمة العامة واضحة وصريحة، فهي تحيل العسكري للتقاعد بعد خدمة خمسة وثلاثين عاما أو بلوغه السن النظامية حسب رتبته، أيهما أسبق، وكذلك الأنظمة المدنية مع بعض الاختلافات في المدد الزمنية والأعمار، إن هذا هو معيار التقاعد النظامي الذي يجب تطبيقه حرفيا حتى نواكب العصر ولا نصادم الأنظمة، أما أن تترك العملية كما هي عليه الآن، فسوف ينتج عنها كثير من المشكلات المعقدة، يأتي على رأسها استمرار بل وتزايد معدل البطالة بين الشباب والفتيات، حيث لا يمكن حل مشكلة البطالة في ظل مواصلة (العواجيز) للعمل والتمسك بالكراسي، والمشكلة الثانية أن التحديث والتطوير المأمول وعجلة التنمية الشاملة ستتوقف حتما، بسبب العقول الصدئة التي لا تمارس أي تطوير أو تقدم لمصلحة المنشأة، وأرجو ألا ينبري أحد المدافعين عن (المحنطين)، فيقول إنهم قامات عالية من الخبرات المتراكمة.. لأن الواقع يقول إن وجودهم ليس إلا تكرارا مملا وروتينا عقيما يشبه الاجترار ليس إلا، فالخبرة تأتي من الخبرات العلمية المتراكمة في تطوير وتحسين أدوات وإجراءات العمل، وليس من تراكم السنين على الكراسي الدوارة.