من "اللطائف" التي سرت في المشهد الثقافي السعودي في العقد الأخير تعبير (كائنات ما بعد 11 سبتمبر) الذي أطلقه أحدهم على مجموعة من الكتاب الذين تقدموا المشهد الكتابي في الصحافة السعودية ومعظمهم كان ينتمي للتيار (الحركي) الإسلامي، بل إن بعضهم خاض تجربة المعتقل نتيجة ممارسات متطرفة. ولكنهم سرعان ما تحولوا عن التطرف، وباتوا يطرحون أفكارهم ضمن منظومة جدل فكر إشكالي ينحو تجاه تمظهرات فلسفية ورؤى تنويرية.ولم يكن خافيا على كثير من المراقبين ظهور تأثير الاتجاه النقدي / الفلسفي لمجموعة من رموز هذا الاتجاه في العالم العربي ولعل من أبرزهم محمد أركون، وجلال العظم، وهشام شرابي، وجورج طرابيشي، ونصر حامد أبو زيد، وفهمي جدعان، وبطبيعة الحال يأتي في الطليعة الراحل عنا مؤخرا محمد عابد الجابري، الذي كان صاحب التأثير الأكبر في إحداث الأثر الهائل على مجموعة ممن عرفوا أيضا ب (المتحولين) في المشهد الثقافي السعودي."الوطن" سعت لرصد حجم التأثير الذي أحدثه الجابري، بيد أن معظم هؤلاء المتحولين اعتذر عن الحديث، عدا قلة ومنهم الكاتب عبدالله بن بجاد العتيبي الذي روى ل"الوطن" قصته مع الجابري قائلا: حين يتيه الفكر في غياهب الحقيقة المطلقة ويحسب أنه في قمتها، مالكٌ لزمامها لا يمكن لأحد أن ينقذه من ضرره لنفسه فضلا عن ضرره للآخرين، هكذا هي حالنا منذ القدم وحتى اليوم. ويتابع العتيبي "بعد أوّل مقالةٍ نشرتها بعنوان "النسبية والظنّ في الشريعة" في أكتوبر من عام 1999م، انهالت عليّ الاتهامات والتجريحات بأنّني متأثرٌ بالجابري وفكره، ولئن كنت قرأت للجابري في منتصف التسعينيات كتاباً صغيراً كان يحمل عنوان "الدين والدولة وتطبيق الشريعة"، فإنّه وإن لفت انتباهي فلم يكن هو شغلي الشاغل، فلقد كان اشتغالي حينها بمقاصد الشريعة والكتب المؤلفة فيها قديماً وحديثاً مع قراءاتي الخاصة في الفلسفة وأصول الفقه والتاريخ وشتى العلوم حائلاً دون التفرّغ لكتب الجابري، والاهتمام بفكره".ولا يخفي العتيبي أثر الجابري، إذ يتابع موضحا "حين قرأت الجابري وابتدأت بمشروعه الكبير في نقد العقل العربي أصبت بالدهشة والفرحة معاً، الدهشة لسعة اطلاع هذا المفكر الكبير على التراث الإسلامي الذي كنت غارقاً فيه وعبقريته في تناول هذا التراث، والفرحة بتوافق كثيرٍ من آرائه واستنتاجاته النهائية مع بعض رؤاي التي كانت في طور التشكّل".وعن المرة الأولى التي التقى فيها بجاد بالجابري مواجهة قال: التقيت الجابري رحمه الله في أكثر من مرةٍ، أولاها: حين جاء للرياض مدعواً لمهرجان الجنادرية في نهاية التسعينيات وبداية الألفية الجديدة، وثانيتها: في 2007 في منتدى جريدة الاتحاد وكان لقاءً عابراً، وثالثتها: حين ألقيت ورقةً في منتدى جريدة الاتحاد عام 2008، بعنوان "الجماعات الدينية وأثرها على الاستقرار السياسي، دول الخليج نموذجاً"، وكان الجابري رحمه الله قريباً منّي فأبدى إعجابه الشديد بالورقة وقال لي إنه قرأ شبيها في إصدار مركز المسبار الأول "السرورية"، فأوضحت له أنّي كاتب ذاك البحث، وقد أعجبتني ذاكرته وسرعة استحضاره، وحين قلت له إنني أعتبر نفسي واحداً من طلاّبه أبدى تواضع العالم وقال لي: إننا إخوة نستفيد من بعضنا، وإنني سأعيد بعض قراءاتي بناء على ورقتك.أمّا الرابعة: فكانت في أثناء احتفال جريدة الاتحاد بمرور أربعين عاماً على إصدارها 2009م، حيث التقيته وبعض الأصدقاء وتناقشنا معه في بعض أفكاره وأوضحنا له أننا تلاميذٌ على مائدة علمه فكان يصرّ على أننا زملاء وأننا نستفيد من بعضنا، في تواضع عالمٍ وترفّع مفكّر، وأبدى في هذا اللقاء عتبه على مقالةٍ نشرتها حينذاك بعنوان: "الجابري أعلم من ابن رشد". ويختم العتيبي مداخلته: رحم الله هذا المفكر الكبير والدارس النهم والكاتب المبدع، سيظل دائماً بفكره وإنتاجه الغزير رائداً لا يكذب أهله وذاك لعمري هو الكنز الذي لا يفنى. غدا (يوسف الديني) يسرد تجربته مع الجابري.