عوض علي الوهابي سراة عبيدة قبل أسابيع قليلة تابعنا تفاصيل ذلك الخبر المؤلم الذي اهتزت له القلوب حزنا على دماء الطفلة "تالا الشهري"، التي رحلت عن الدنيا وأزهقت روحها البريئة على يد عاملة منزلية بيتت نية الترصد والإجرام لهذه الطفلة وأسرتها؛ ليستمر بذلك مسلسل العصف ببراءة الطفولة الذي سبق لنا أن شاهدنا الكثير من مشاهده المتنوعة والبشعة بشتى مستوياتها التي كانت هذه الجريمة أعلى مستوياتها وأشدها جرما، ثم ما يندرج دونها من صور العنف الجسدي أو المعنوي والتشرد والحرمان الأسري والإهمال وسوء الرعاية وغيرها. إن هذا التسلسل الإجرامي بكل مراتبه وصوره في حق الطفولة يمثل مواقف لا يمكن لنا – بأي حال من الأحوال – أن نتعايش معها على أنها مجرد مواقف استثنائية تظهر فيها الجريمة بدوافعها المتعددة المنبعثة من نفس بشرية تخلت عن دينها وتجردت من إنسانيتها، وانساقت خلف ظلام الحقد والكراهية، وتنتهي بمجرد معاقبة مرتكبها ثم نسيان الجاني والمجني عليه. بل علينا أن نعي أن هذه المواقف لا تمثل صميم المشكلة وليست هي جوهرها وإنما هي إفراز وعرض من أعراض مشكلة أكبر وأخطر مدفونة في جسد المجتمع بأكمله، تختفي في ثنايا ثغرات وثقوب عميقة نتجت عن اختلال واضح في معادلة الحقوق والواجبات والمسؤوليات في ثقافتنا وتفاصيل حياتنا بأكملها على مستوانا كأفراد ومجتمعات. إن من أعظم ثمرات رسالة الإسلام التي بعث بها رسولنا الكريم – عليه أفضل الصلاة والسلام – أن جعلت حياة الناس يسيرون وفق منهج منظم دقيق متوازن في دائرة محكمة من الحقوق والواجبات، ومتلازمة المهام والمسؤوليات، فكل فرد منا ذكرا كان أم أنثى تحيط به مسؤوليات وواجبات متنوعة تبنى عليها حقوقه. ولو حاولنا تطبيق معادلة التوازن بين معايير الحقوق والواجبات وترابط المهام والمسؤوليات مع العقوبات والمحاسبة على واقعنا كأفراد وكمجتمع فسنجد أن هناك خللا كبيرا وقصورا واضحا في الوفاء بتلك المعايير والضوابط، والأمثلة كثيرة فمنها مسألة الحقوق والواجبات الوظيفية وما يرتبط بها من مهام ومسؤوليات نجد الغالبية العظمى من الموظفين بمختلف فئاتهم ومسؤولياتهم لا يعرف ما هي حقوقه الكاملة وما هي الواجبات المطلوبة منه تجاهها، وحتى إن كان على علم ببعضها فإنه يتجاهلها، وبالتالي وجدنا الأداء الوظيفي باهتا ومعدل الإنتاج متدنيا، وهو ما سبب وجود حالة من الفساد الإداري وتأخير العمل. وعلى هذا المثال يقاس الكثير من حالات الخلل في التفاعل بين أفراد المجتمع سواء في العمل أو في محيط الأسرة أو في الطرق العامة وبين الجيران وبين الأزواج وغيرها، وكلها تختل فيها معايير الحقوق والمسؤوليات بشكل لافت. وللتركيز على أهم هذه القضايا وهي الحقوق الأسرية في الرعاية والتربية بين الأبناء ووالديهم، وذلك من خلال مبدأ توازن الحقوق والمسؤوليات وتطبيقها على المواقف التي يتعرض لها الأطفال خاصة من عنف وإيذاء أو إهمال في التربية أو تقصير في رعايتهم الصحية أو النفسية وغيرها بشكل عام؛ لنأخذ منها العبر والدروس ونستفيد من تلك الدروس مستقبلا. والطفلة الضحية "تالا" ليست نموذجا لتقصير من أسرتها مطلقا ولا يمكن أن يصح هذا الحكم الخاص بل هي نموذج على حالة قصور عام، فمعظم الأسر اليوم تعيش على ذات النسق الذي اتسعت فيه دائرة اللجوء للعمالة المنزلية بعلاتها وكمها الهائل، وهي أشبه بقنابل موقوتة انفجرت إحداها في جسد "تالا" وما زال الكثير منها في بيوتنا يمكن لها في أي لحظة أن تنفجر وتذهب ببراءة المزيد من أطفالنا، فإن لم تكن في أجسادهم فستكون حتمية في ضرب قيمهم وأخلاقهم وإضعاف تربيتهم بشكل خطير جدا. ولهذا فإننا يجب أن نتوقف كثيرا عند قضية الحقوق والمسؤوليات الأسرية وتحديدا ما يخص الأمهات ودورهن في محيط الأسرة، وتأثير هذا الدور وامتداده في تكوين المجتمع بأكمله، فالأم هي المدرسة الأولى في الحياة، فمنها يستقي أبناؤها خبراتهم الأولى في الحياة، فهي المُوجه والمُربي والمُعلم الأول، بل هي مدرسة بذاتها.. ولكن هذا الدور الكبير نجده قد تراجع كثيرا وأن هذه المدرسة قد قل عطاؤها في الأزمنة المتأخرة، فما هي الأسباب التي أدت إلى تراجع دور الأم الأساسي في التربية؟ وكيف لها الموازنة بين تربية أبنائها على القيم والمبادئ ومجاراة واقع المجتمع ومستحدثات العصر المؤثرة؟ وهل نستطيع إعادة دور الأم كما كان سابقاً؟ وهل استطاعت الجهات المعنية إعداد المرأة للتوفيق بين مهامها الوظيفية والأسرية؟ إن الإجابة على هذه التساؤلات تتركز في ترابط وثيق بين حلقات متعددة أولها إيجاد الموازنة اللازمة في إطار منظومة الحقوق والواجبات والمسؤوليات بين الأم والأب من جهة، والأبناء من جهة وكذلك العاملة المنزلية أو السائق من جهة، وهذه الأطراف الثلاثة يجب أن تلتزم بالعمل بدقة بالغة من منطلق ما له وما عليه وخاصة من قبل الآباء والأمهات في وعيهم الكامل بحقوق ومسؤوليات الأبناء، وكذلك حقوق ومسؤوليات العاملة المنزلية أو السائق، ولا تترك القضية بما هي عليه من تخبط وتداخل كبير. وثانيها من خلال ضرورة أن تعي كل أم دورها "كأم" في محيط أسرتها ومجتمعها وأهمية العناية بتربية أبنائها ورعايتهم ومتابعة كل شؤونهم، وأن يكون هذا الدور ضمن الأسس التي تقوم عليها تربية الفتيات من صغرهن من خلال إعدادهن تدريجيا كأمهات في المستقبل باتجاه مواز لإعدادهن للدراسة والعمل، فإن كان عمل المرأة المباح أمرا مطلوبا ولها الحق في ممارسته فإن دورها كأم هو أيضا أمر مطلوب وأوجب عليها من مهام العمل والدراسة؛ وبالتالي لابد هنا من رؤية معتدلة ووعي كاف للتوفيق والمواءمة بين هاتين المهمتين. وثالثها أن اللجوء إلى العاملات المنزليات هو الحل البسيط لدى كل أم عاملة لديها مهام وظيفية خارج المنزل؛ فتلجأ للعاملة المنزلية ليس من أجل أعمال المنزل فحسب، بل كأمهات بديلات، والأم الحقيقية تتفرغ لعملها بل حتى خارج وقت الدوام ومع وجودها في المنزل إلا أنها تبقى بعيدة عن أبنائها؛ إما لانشغالها بمتابعة القنوات الفضائية أو بمتابعة مجموعات التواصل أو النوم، وتركت للعاملة المنزلية مسؤولية التربية خلال اليوم بأكمله، وكان من المفترض على هذه الأم أن تعمل على تعويض أبنائها بوقت كاف بدلا من الوقت الذي خرجت فيه لعملها وأن تحاول ملازمتهم بقية اليوم واللعب معهم والاستماع لهم ومتابعة شؤونهم الصحية والنفسية؛ إذ لا يمكن للطفل أن يستغني عن أمه وأن يتذوق الحنان إلا في حجرها الدافئ. أما رابع الحلقات من خلال مؤسسات المجتمع والأجهزة الرسمية المعنية سواء في مجالات التربية والتعليم وفي الإعلام وحقوق الإنسان والعمل والشؤون الإسلامية وغيرها بأن تضطلع بدورها وتقوم بواجبها من خلال إخراج عمل تربوي دعوي وتوعوي وإعلامي يقدم للمجتمع بأكمله من خلال عدة قنوات ووسائل، يستهدف الأمهات أولا من أجل تثقيفهن وتبصيرهن وتنمية الوعي لديهن بما يراعي الحقوق والواجبات والمسؤوليات بين الوظيفة من جهة والأسرة وتربية الأبناء من جهة أخرى. ونتطلع بكل اهتمام إلى خطوات عاجلة من التوسع في وجود دور للحضانة ورياض الأطفال بعمل محكم تراعى فيه الجودة العالية على المستويين الكمي والنوعي، تقوم به وزارة التربية والتعليم وبمشاركة الجهات المعنية الأخرى؛ بما يمكِّن الأسرة بأكملها أن تنطلق من المنزل في وقت واحد وتعود في وقت واحد، فالأمهات والآباء في أعمالهم بعد أن يطمئنوا على أبنائهم في مواقع متخصصة تحفظهم وتعلمهم وتربيهم، بداية من دور الحضانة ثم رياض الأطفال وما بعدها من مراحل التعليم العام، وهذا هو الدور المأمول من وزارة التربية والتعليم.