في وقتٍ تتسارع فيه التحولات التقنية تتقدّم تطبيقات الذكاء الاصطناعي بثقة نحو قلب المشهد التربوي، لتقدم لنا هذه الأدوات وعودًا بالكفاءة، والدقة، والتخصيص، وتحسين المخرجات، ولكن في ثورة هذا الاندفاع التقني يبرز سؤالٌ جوهري: هل نستطيع أن نُعلِّم دون أن نفقد المعنى الإنساني للتعلُّم؟ في أحد الأيام، كنت أراقب ابني يتفاعل مع جهازه اللوحي، يُنصت إلى «معلم افتراضي» يشرح، يكرّر، يصحّح، ويُعيد.. كل ذلك بنبرة لا تتغير. بدا ابني مذهولًا بما يرى، لكن ملامحه بقيت ساكنة، كأنّه يتلقّى المعلومة، لا العاطفة. لحظتها فقط فهمت أن الذكاء الاصطناعي قد وصل إلى الصف، لكنه لم يصل بعد إلى القلب. لا أحد ينكر ما أتاحته هذه التكنولوجيا من تحليل عميق لبيانات المتعلمين، وتخصيص المناهج، والتنبؤ بالمستقبل، وتقديم محتوى تعليمي مخصص بدقة متناهية. إنها إنجازات علمية لا يستهان بها، لكنها في المقابل تظل ناقصة إذا لم يُرافقها بُعد إنساني يُعيد للموقف التعليمي روحه. الذكاء الاصطناعي لا يشعر بخيبة الطالب الذي جاء إلى المدرسة بلا مصروفه المدرسي، ولا تلك اللمعة الخجولة في عينيه حين أدرك أخيرًا قاعدة رياضية صعبة. هذه التفاصيل الصغيرة هي ما تخلق التجربة التربوية، وهي ما لا يمكن أن تُرصد بالبرمجيات والخوارزميات المعقدة. التعليم الحقيقي لا يُقاس فقط بمستوى التحصيل، بل يُقاس أيضًا باتجاهاته وميوله ورغباته نحو التعلم، ومدى ما نتركه من أثرٍ في نفوس المتعلمين، فالمعلم حين يكون حاضرًا بجسده وروحه يُجسّد هذا الأثر. نعم، لنعتمد الذكاء الاصطناعي، لكن لنمنحه مكانه الصحيح: أداة مساعدة لا بديلة، فلتكن دافعًا للمعلّم لا مزاحمًا له، ونُبقي على صوت الإنسان واضحًا في حوار التربية، لأنه وحده من يستطيع أن يربّت على كتف العقل والقلب معًا. إننا لا نخشى الآلة، بل نخشى أن ننسى إنسانيتنا في حضرة كمالها الرقمي، فالتربية ليست مجرد نقل للمعارف فقط، بل نقل روح، والروح لا تُبرمج.