في اللحظة التي بدأ فيها الذكاء الاصطناعي يتحول من مجرد أداة إلى كيان قادر على التعلّم، والتحليل، واتخاذ القرار، دخلنا مرحلة لم تعد فيها الرأسمالية كما كانت. لقد تجاوزنا منذ سنوات اقتصاد الصناعة، ومررنا عبر رأسمالية المعرفة، وها نحن الآن نعيش في عمق اقتصاد التنبؤ بالسلوك، حيث لا تقاس القيمة بما تملكه أو تنتجه، بل بما يمكن توقعه من أفعالك. لم يعد الإنسان مركز الاقتصاد، بل سلوكه وعاداته ونمط حركته في السوق والفضاء الرقمي. هذا الاقتصاد لا يسأل ماذا تريد، بل يخبرك ماذا ستريد قبل أن تفكر بذلك. لكن السؤال الأعمق يطل الآن: ماذا سيحدث عندما يصل الذكاء الاصطناعي إلى مستوى ذكاء الإنسان، بل ويتجاوزه؟ حينها لا يعود التنبؤ هدفا، بل السيطرة. لا يعود الإنسان مادة للتحليل، بل كائنا تعاد برمجته من قبل خوارزميات تفهمه أكثر مما يفهم نفسه. الرأسمالية التي طالما اعتمدت على وفرة العمل والاستهلاك ستجد نفسها أمام واقع جديد: المنتج صار آلة تفكر، والمستهلك يشكل مسبقا. لم يعد الطلب طبيعيًا أو تلقائيا، بل صُنع داخل نظام مغلق يحاكي الوعي البشري ويوجهه. في هذا العصر لن تكون المنافسة بين شركات، بل بين عقول صناعية تدار من قبل كيانات تملك الخوارزميات وتتحكم في تدفقات البيانات. الاقتصاد هنا لا يحتاج إلى سوق، بل إلى شبكات. والسلطة لم تعد بيد من يملك رأس المال، بل بيد من يملك الذكاء نفسه. وحين يصبح الذكاء منتجا قابلا للتمركز، فإن التفاوت الاجتماعي سيأخذ أبعادا غير مسبوقة، حيث تنشأ طبقة جديدة، ليس على أساس المال أو النسب أو التعليم، بل على أساس القرب من مراكز الذكاء الاصطناعي. ما بعد الذكاء البشري قد لا يكون مجرد مرحلة من مراحل الرأسمالية، بل خروجا عنها. في هذا العالم يصبح العمل البشري فائضا عن الحاجة، وتصبح كثير من الوظائف مجرد ذكرى. القيمة الاقتصادية تتحول إلى شيء مجرد، يختفي وراء المعادلات والنماذج الرقمية. وربما يتلاشى حتى مفهوم العمل نفسه، ويظهر بدلا منه مفهوم الوجود كأداة لإبقاء النظام متوازنا. ماذا تفعل المجتمعات حين لا تكون هناك حاجة إليها للعمل؟ هل تتحول إلى مستهلكين مدعومين بأنظمة دخل أساسي عالمي؟ أم إلى كيانات ترفيهية تعيش في ظلال الآلة الذكية؟ هنا، تطرح أسئلة فلسفية أكثر منها اقتصادية. من يمتلك هذا الذكاء؟ هل يجب تأميمه؟ هل العدالة ممكنة حين تصبح الخوارزمية هي الحاكم الفعلي؟ هل هناك حاجة لدولة أصلا في ظل وجود نظم ذاتية التنظيم تفوق البشر دقة وحسما؟ الرأسمالية ما بعد الذكاء البشري ليست مجرد تطوير في أدوات السوق، بل ولادة جديدة لنظام قد يحتفظ باسمه لكنه يفقد جوهره. في النهاية، قد لا تكون المشكلة في الذكاء الاصطناعي بحد ذاته، بل في البنية التي تحتضنه وتمنحه الشرعية والسلطة. الرأسمالية التي طالما تغذت على التحكم في العمل والأسواق، أصبحت اليوم تغذي نفسها بالتحكم في الوعي ذاته. وإذا استمرت في هذا الاتجاه، فإننا لن نشهد فقط مرحلة جديدة من الرأسمالية، بل نهاية ما تبقى من الإنسان كمركز للعالم الاقتصادي والاجتماعي. في عالم تفكر فيه الأنظمة بدلا عنا، ربما يكون الخيار الحقيقي الوحيد هو أن نعيد التفكير في النظام من جذوره، قبل أن يصبح التفكير رفاهية لا يمنح إلا لمن يملك الخوارزمية.