رمضان شهر الطمأنينة حيث تهدأ الأرواح وتصفو القلوب، وتعلو أصوات المآذن بنداء الإيمان فتجد الناس يتسابقون في الطاعات ويبحثون عن لحظات روحانية تغمرهم بالسكينة. شهر تتجدد فيه العلاقة مع الله، حيث تمتلئ المساجد بالمصلين، وترتفع همم الصائمين، فيتفرغون للعبادة والذكر وقراءة القرآن، مستشعرين روحانية لا تتكرر في باقي شهور السنة. ولكن وسط هذه الأجواء المباركة، هناك من يجد نفسه بعيدًا عن هذا كله، مشغولًا في سباق لا ينتهي من التحضيرات والاستعدادات التي تحوّل الشهر الكريم من موسم للعبادة إلى موسم للإنهاك والضغوط المنزلية. ففي بعض البيوت يتغير بروتكول اليوم رأسًا على عقب، ويصبح الجدول الزمني أشبه بمخطط طوارئ لا مجال فيه للراحة. هناك نوعية من الناس لا تتذكر صلة الرحم إلا في رمضان، وكأن السنة أحد عشر شهرًا بلا أقارب! فجأة، تبدأ موجة «اعزمني وأعزمك» ويتحول الإفطار إلى سباق اجتماعي، حيث تتنافس العائلات على أضخم الموائد وأكثر الأصناف تنوعًا، وكأن الصيام اختبار في من يستطيع تحضير أكبر عدد من الأطباق في أقل وقت ممكن. أما بعض الأبناء، فلا يظهر عليهم الكرم طوال العام، لكن ما إن يدخل رمضان حتى يبدأ موسم «الكرم المفاجئ» فينطلق في دعوة الأصدقاء والمعارف بلا حساب، متجاهلًا الإنهاك الذي تعانيه والدته وأخواته في إعداد مائدة الإفطار، ثم غسل الصحون، وترتيب الفوضى التي يخلفها هذا الكرم الموسمي. في بيوت كثيرة يتحول المطبخ في منتصف النهار إلى ميدان معركة. تقطيع وعجن وطهي وحرارة مرتفعة، والجميع صائم لكن لا وقت حتى لالتقاط الأنفاس. وبمجرد أن يرفع الأذان، يجلس الضيوف بكل أريحية للاستمتاع بوجبة متكاملة، بينما المضيفون يواصلون العمل في الخلفية، ثم تبدأ الجولة الثانية من المهمة حملة تنظيف شاملة تجعل المنزل يبدو وكأنه استقبل قافلة ضيوف قادمة من مجاعة. عندما يحين وقت صلاة التراويح، يكون الإرهاق قد بلغ ذروته. بعض ربات البيوت يتجه للصلاة وقد أنهكهن التعب، وأخريات يؤجلنها إلى أجل غير مسمى، فالمطبخ يحتاج إلى إعادة تأهيل استعدادًا ليوم جديد بنسخة مكررة من المشهد ذاته. وهكذا يمضي الشهر، وينتهي ويجد البعض أنهم لم يحققوا سوى رقم قياسي في عدد الضيوف المستضافين، بينما لم يفلحوا في إتمام ختمة واحدة للقرآن، أو الاستمتاع بصلاة تراويح خاشعة، أو حتى الشعور بروحانية الصيام. لذا لابد أن يدرك الجميع أن رمضان ليس موسم المسابقات في عدد العزائم، وليس اختبارًا لمن يستطيع إقامة أكبر عدد من الولائم. بل هو شهر الروحانية، شهر الهدوء، شهر أن تجد نفسك أقرب إلى الله، لا أقرب إلى حوض «مجلى الغسيل»! فمن الجميل أن نكرم الضيف، ولكن الأجمل أن يكون ذلك دون إنهاك لأمهاتنا وزوجاتنا وأخواتنا، ودون تحويل الشهر الفضيل إلى موسم للطهو الجماعي والضغوط المنزلية. قليل من الإنسانية، قليل من التوازن، وكثير من الفهم لمعنى رمضان الحقيقي، قد يجعل الشهر أكثر رحمة للجميع، بدلاً من أن يكون ماراثونًا لا ينتهي من الطهي والتنظيف والضيافة المرهقة.