في عالم تغمره المصالح الشخصية والمنافسات الضارية، تبدو الطيبة وكأنها خطيئة. يصعد الأذكياء على أكتاف البسطاء، ويُكرَّم الماكرون، بينما يتجرع الصادقون الخذلان، حتى أصبحت النزاهة عبئًا لا مكان له في سباق القوى والمصالح. الطيبون لا يلتفت إليهم أحد، ولا يخلدهم التاريخ كما يفعل مع أولئك الذين صنعوا من قسوتهم مجدًا، ومن دهائهم عروشًا. لكن، رغم ذلك، هم من يسندون جدران الحياة المتصدعة، يمنحون بلا مقابل، ويتغاضون عن الإساءة وكأنهم خُلقوا ليكونوا ملاذًا للعابرين. إنهم كالشموع التي تحرق نفسها لتنير درب غيرها، لكن أحدًا لا يسأل عن ألم الشمع حين يذوب. ولأن العالم يحكمه قانون الغاب بثياب حضارية، فحين تحين لحظة المكافأة وترتفع رايات النصر، يجد هؤلاء البسطاء أنفسهم في آخر الصف، حيث لا تصفق لهم الأيادي، وكأن العالم قد قرر مسبقًا أن الطيبة لا تستحق الثناء، بل تستوجب العقاب بالصمت والتجاهل والنسيان. الطيبون أول من يُخذل، وأول من يُساء فهمه، لأنهم لا يجيدون ارتداء الأقنعة، ولا يتقنون فنون الالتفاف على الحقيقة، ولا يملكون من القسوة ما يكفي لحماية قلوبهم من التصدع. لكن... هل هم الخاسرون حقًا؟ قد يتوهم البعض ذلك، لأنهم لم يجمعوا ما يكفي من الانتصارات السريعة، ولم يحققوا مجدًا مبنيًا على المكر والدهاء. لكن الحقيقة أعمق من ذلك. فحين تُسدل ستائر الأيام، وحين يجلس كل إنسان أمام مرآة ذاته، يكتشف الناس أن الطيبين وحدهم هم من خرجوا من هذه الحياة بأرواح لم تتلوث، وقلوب لم تخن مبادئها، وسكينة لا يشوبها ندم. الطيبة قد لا تمنحك ميدالية، لكنها تزرع بذورًا في القلوب، تُثمر يومًا ما أمانًا أو أملًا. أن تكون طيبًا يعني أن تؤمن بأن الخير غاية في حد ذاته، حتى لو لم يكافئك أحد. العالم قد يغرق في الأنانية والصراعات، لكن هذا لا يقلل من قيمة من يرفضون المشاركة في هذا السباق، لأن الأثر الحقيقي لا يقاس بالمناصب والمكاسب، بل في ترك بصمة وأثر جميل في حياة الآخرين... وهذا في النهاية هو الجزاء الأكبر.