أنشد الشاعر الجاهلي قصيدته على صدور الصحاري وظهور الإبل وبطون الأودية والشعاب، مستخدماً أعضاء النطق اللسان والشفتان والأحبال الصوتية والحنجرة، ما يعني أن هذا الشعر «نشأ شفويا ضمن ثقافة صوتية سماعية أي، مسموعاً لا مقروءاً غناءً لا كتابةً مُعبّراً عما يعرفه السامع مسبقاً، عاداته وتقاليده حروبه ومآثره انتصاراته وانهزاماته»، مستفيداً من «الصيغ الشعرية الجاهزة الثابتة – عبارات/ جمل/ أمثال/ حكم – تلك التي ثبتت في الذاكرة وتغلغلت في الوعي واللاوعي معاً» ومن ثم يبدأ الناس في تداول تلك القصائد مشافهة أيضاً، ولم يكن للكتابة دور في توثيقها بل الذاكرة والذاكرة وحدها المسؤولة عن حفظها وانتشارها في المجتمعات العربية من خلال الرواة وعابري السبيل وسواهم. أستذكر ما سبق وأنا أستمع إلى قصائد العرضة في جبال السراة – عسير– التي ينشدها الشعراء في حفلات الزفاف والتكريم والاحتفالات الوطنية وسواها، وتلتفّ حولهم الجماهير مستمعين إلى الألحان التي يغنيها الشعراء، وتعكس إيقاع الحياة الجبلية وترانيمها البديعة، ولا يطلب الجمهور اليوم من شعراء العرضة غير المتعة والرقص على إيقاعات الزير والزلفة لا أكثر- على عكس ما كانت سابقا من استعداد للحرب والقتال لبث الحماس في نفوس المقاتلين أو الاحتفال بالنصر- ثم ينصرفون بعد ذلك إلى منازلهم محتفظين ببعض القصائد في الذاكرة ونقلها إلى الآخرين الذين لم يحضروا تلك الحفلات والإشادة بشاعر ما أو الانتقاص من شاعر آخر، وناقل الشعر هذا إما أن يكون (راوياً) يحمل ذاكرة قوية ويحفظ القصائد وينقلها إلى الناس في مجالسهم، وإما أن يكون شريط «كاسيت» يسجلها صاحب المناسبة ومن ثم يبعها على دكاكين «الاستوديو الصوتي» وشراء الناس لها في ما بعد، وإما أن يكون «كاسيت فيديو» مسجل أيضاً صوتاً وصورة، أو أن يكون هذا الراوي اليوم مقطعاً مسجلاً عبر وسائط التكنولوجيا الحديثة ويتناقل الناس هذا الشعر عبر وسائل التواصل الاجتماعي المتعددة في الأجهزة الذكية والسريعة (الهاتف المحمول). سيكون من المفيد الإشارة إلى صفة العرضة التي تدخل في سياق الفولكلور السعودي، منتظمة بإيقاعها الحربي الخاص وتعكس شجاعة «العراضة» – الرجال غالباً - بأزيائهم اللافتة وانضباطهم في الأداء والمرسام - أشبه بالاستعراض العسكري - وتبرز قدراتهم في استخدام الأسلحة والبنادق والمقمع والسيوف والخناجر وسط المحافل، ويتقدم الصفوف الشيوخ والأعيان سباعية أو ثمانية ثم يتدرج الصف إلى ثنائي يسيرون في الميدان وتبدأ بخطوات مركزة ثم تسير باتجاه دائري يتوسط الدائرة المزيف والمزلف ورفاقه على الزير والدفوف وأضيف إليها حديثاً المزمار الذي يصاحب إيقاع الطبول وسط نيران معدة لتسخين الأدوات، ويقف الشعراء على مقربة منهم «والعراضة» تمارس رقصتها على تلك الإيقاعات إلى أن يبدأ الشاعر في الغناء (الرزف) ثم يردد المشاركون بعده وهكذا. ما يهمُّ هنا هو الشعر، الذي ينشده شعراء العرضة– الشقر– الجناس، والذي يتميز به شعر العرضة ويقيده أيضاً، ويتمتع بالتنوع في القوافي في القصيدة الواحدة، وتأخذ القصيدة شكل البدع من الشاعر الأول والرد من الشاعر الثاني وهكذا وتظل التفعيلات والأوزان موازية لبحور الشعر العربي الفصيح، ويستهل الشاعر البدايات غالباً (يالالا لي لالاه) وقد جدد الشعراء الجدد في ألحان العرضة تماشياً مع إيقاع الحياة الحديثة وإيقاعها السريع. لا جدال في اعتماد هذا الشعر على المشافهة والحفظ والسماع، ولا يعتد فيه بالكتابة بل إن الأمر قد يصل إلى الانتقاص من الشاعر الذي يكتب القصيدة ثم يأتي ليلقيها أمام الجمهور، لأن الأصل هو الإلقاء والإنشاد في المناسبات الاجتماعية، والاعتماد على الذاكرة وسرعة البديهة ولربما يُشك في قصيدة الشاعر المكتوبة «وذلك تماشياً مع أنظمة الثقافة الشفوية» وقد يكون الصوت الحسن للشاعر أكثر طلباً له في الحفلات ووصولاً إلى وجدان الجماهير، حتى لو كانت موهبته الشعرية دون المستوى الفني المطلوب في هذا النوع من الشعر؛ فالمقيّيم لتجربة الشاعر هنا هو الجمهور ومن يحدد أو يدعو هذا الشاعر أو ذاك للمشاركة الدائمة في الحفلات الاجتماعية المتنوعة، متى ما استطاع الشاعر مواصلة امتاع الداعين بخاصة واستدعاء أمجادهم ومآثرهم وما إلى ذلك. لا يعدّ خجلاً في شعر العرضة استخدام الشاعر للصيغ الشعرية الجاهزة والمتداولة بين الشعراء السابقين واللاحقين، ما دامت حقوق الملكية الفكرية لا تطبق تماماً في هذا النوع من الشعر «باسم الله أبدا واصلي ع النبي» أو «سلام ياللي رافع البيرق» أو «يوم جانا داعي الشيخ أبو صالح» أو «بين خلق الله نماريبه»؛ فيستخدم الشاعر صيغة شعرية من الصيغ المحتشدة في ذاكرته كلما وجد ضرورة لذلك ما دام أنها «تحمل القيمة الوزنية لقصيدته ذاتها من دون أن يعبأ أن شاعراً ما قبله أو معاصراً له استخدمها ما دامت الصيغة ليست ملكاً لأحد»، حتى وإن طوَّر الشاعر بعض تلك الصيغ أو عدّل بعض المفردات ولم تخرج عن المعنى المراد. على الأرجح أن شاعر العرضة الجديد أيضاً تحاصره هذه الصيغ الشعرية الجاهزة، والبعض لم يستطع تجاوزها أو ابتكار صور شعرية مغايرة فهو وإن بدا أكثر معاصرة وتطوراً لما يعيشه اليوم إلا أن «الأنظمة الشفوية لا تزال تفرض سلطتها ولا تتعدى خصائص الشعر الشفوي» التكرار والإيقاع والصيغ المتلازمة، وهذا الشعر ليس ببعيد عن الشعر الشفوي الجاهلي والمشار إليه في رأس هذه السطور. من المؤكد أن إجراء أي تعديل في أركان العرضة وطقوسها الفرائحية في جبال السراة، سوف يفقدها الهيبة والمتعة التي يسعى إليها الجمهور، كالاستغناء عن ارتداء الأزياء الخاصة بالعرضة واستبدال ساحة الميدان بالصالات المغلقة أو إلغاء الدفوف والأزيار والزلف وسواها، مما يميز هذا الفن الذي يضرب في عمق الثقافة الجبلية على امتداد جبال السراة في منطقة عسيرجنوب غرب المملكة العربية السعودية.