بتوفيق الله تعالى، وبفضل الرعاية السامية الكريمة لسيدي خادم الحرمين الشريفين، وبالمتابعة الحثيثة لأمين عام رابطة العالم الإسلامي رئيس هيئة علماء المسلمين، الدكتور محمد عبدالكريم العيسى، وبالحرص الكريم من حوالي 300 عالم من مختلف التنوعات المذهبية، وبعد يومين من الحوارات المكثفة التي تضمنها مؤتمر بناء الجسور بين المذاهب الإسلامية، في أقدس الأماكن، وأشرف الأزمنة، ظهرت بحمد الله فجر الثلاثاء الماضي وثيقة (بناء الجسور بين المذاهب الإسلامية). بداية، أذكر، ولا غضاضة في ذلك، أنه لولا وجود مشكلات وصراعات بين أصحاب المذاهب الإسلامية بنوعيها (الفقهي والعقدي) لما كان هذا المؤتمر المستجد، وتتلخص المشكلات في نظري في استمرار عدم قناعة بعض المنتمين للمذاهب بأن الكل متساوون في الانتماء إلى أصل واحد، وإله واحد، ودين واحد، وقبلة واحدة، وأن العنصرية التي انتابتهم، وادعاء الفضل على الغير، وعدم الإيمان بأن الاختلافات والتنوعات في المعتقدات والثقافات والطباع وطرائق التفكير مشيئة ربانية؛ أمور لا تزال موجودة، إضافة إلى الانقسامات، وانعدام أو قلة التواصل والتفاهم، وعدم التغلب على الاعتراف بالخصوصيات، والأحكام الوهمية، والتعميمات الخاطئة على الأواخر بأفعال الأوائل، والتغافل المتعمد عن أن التاريخ إنما هو في (ذمة أصحابه). اليوم بين أيدينا وثيقة جديدة، لها من اسمها نصيب، والصادق المخلص الحكيم يتمنى نجاح بنودها الثمانية والعشرين، خاصة وأن الجهود التي واكبت ظهورها جليلة وجميلة، وهذا مرهون بمقومات معنوية، كضرورة العلم بأنها وثيقة ستشمل (المذاهب الفقهية الثمانية، وأصحاب الممارسات والأفكار العقدية والتربوية المختلفة)، والعمل بها واجب بين الأفراد داخل كل مدينة، وكل بلد، وأنها ليست للاستهلاك أو موجهة للخارج أو بين الدول فقط، وأنها جاءت للقضاء الحقيقي على أي إقصاء، وللخلاص العملي من أي استثناء، وأنها ضد محاسبة البشر على الهوية المذهبية، وأنها مع وحدة الشعور والشعائر، ومع كسر الحواجز بغض النظر عن التخيلات، وباب من أجل أن يحترم الناس بعضهم بعضا سرا وإعلانا، بل في السر أكثر. وثيقة بناء الجسور، تعد من أهم وثائق السلام والوئام، ولا أشك في أنها صدرت لتفعيل أدوات بناء الجسور بن أتباع المذاهب وأصحابها، وهذا يعني وبكل اللغات العقلية، أنها (ضد هدم الجسور)، وضد كل من سعى ويسعى لطرد المختلفين معه في (الفقه أو العقيدة) من العيش ومن الحياة، وأنها الأمل في الحث على تعاون الناس مع بعضها، والقناعة بأن المشتركات بينهم كثيرة، وأن الخلافات والاختلافات، والأذواق والتباينات، والرؤى والتقديرات، والمشارب والتصورات بين المذاهب الإسلامية والأعراق الإنسانية، في دوائر الوجود مسموحة، والآداب من لين وشفقة وعدم غلظة معلومة. ختاما أقول إن الوصول لفهم مشترك غاية غير مستحيلة، وهذا يتطلب السعي الصادق من «اللجنة التنسيقية بين المذاهب الإسلامية» لجمع جهود الصادقين، وإظهار قوى الاعتدال في داخل كل مجتمع وخارجه، من الذين لا يعرفون الحقد ولا التآمر، ولا التزلف ولا الانزلاق، والذين يسعون دائما لمحاربة التشويهات المتعلقة بالدين وبالمذاهب، عن طريق الوعي، وعدم التصارع، وعدم التعصب، والفهم التام باستحالة أن يكون الناس على مذهب واحد، وأن مذاهبهم (ليست أديانا متقابلة)، بل هي آراء واجتهادات، أصحابها مأجورون أو معذورون.