وفر لي التردد على مركز آل زلفة الثقافي والحضاري، في قرية المراغة بمحافظة أحد رفيدة في منطقة عسير، فرص الاطلاع على الكتب القديمة والنادرة التي تحتوي عليها مكتبة المركز، وفي ركن قصي من تلك المكتبة عثرت بالصدفة على كتاب "شخصيات عربية من التأريخ" لمؤلفه رياض نجيب الريس، وفيه يعتمد المؤلف على كتاب أصدره الكاتب الإنجليزي "روم لانداو"بين عامي 1936 و1937 إثر رحلة قام بها إلى العالم العربي وقابل فيها العديد من القادة العرب. أرخ المؤلف لرحلته التي شملت كلا من مصر والسعودية وسورية ولبنان وفلسطين والأردن والعراق، إلى جانب تركيا واليونان وبلغاريا ويوغوسلافيا، وقد جمع المؤلف هذه البلدان كلها تحت اسم "الشرق الأدنى" قبل أن يصبح مصطلح "الشرق الأوسط" بعد الحرب العالمية الثانية. وخلال تلك الرحلة قابل المؤلف زعماء هذه البلاد وشخصياتها البارزه طارحا عليهم سؤالا واحداً يكاد يتكرر تقريبا مع كل واحد منهم. محاور الأسئلة وكان السؤال يدور حول ثلاثة محاور أساسية: • الأول: كيف ستؤثر مذاهب الغرب وأيديولوجياته الجديدة - كالنازية والفاشية والشيوعية - على مستقبل الشرق الأدنى؟ • الثاني: ما شعور العرب الحقيقي تجاه العروبة والقومية العربية والوحدة العربية وما مدى إيمانهم بها، وإلى أي حد يتطلعون إلى تحقيقها؟ • الثالث: ما علاقه الإسلام بالسياسة؟ وأين يلتقي ويتناقض الإسلام مع مفهوم القومية العربية وأفكار العروبة ومشاريع الوحدة العربية؟ وهل تستحوذ هذه الأفكار فعلاً على اهتمامات طبقات الشعب؟ وأين وكيف تصب وكيف تنهل من منابع الأيديولوجيات الغربيةالجديدة؟ لقاء الملك عبدالعزيز يقول "لانداو" أخطرني الوزير المفوض للمملكة في القاهرة ذات يوم في نهاية شهر شباط (فبراير) 1937 إن الملك عبدالعزيز بن سعود سيكون موجوداً في جدة في الأيام الأولى من شهر آذار (مارس). وأدهشتني هذه الأنباء، لأنه قيل لي قبل مغادرتي إنجلترا إن الملك لن يتمكن من استقبالي في جدة حتى منتصف شهر آذار (مارس) أو نهايته. لذلك وضعت خططي كلها على هذا الأساس. ولكن الوزير السعودي في القاهرة نصحني بمغادرة مصر دون تأخير وإلا فإنه لن يتسنى لي رؤية الملك على الإطلاق. ودفعني إلحاحه إلى تأجيل مواعيدي الكثيرة في القاهرة إلى تاريخ لاحق وركوب أول سفينة إلى جدة. خارج مكةالمكرمة وصلت إلى جدة في اليوم الثاني من شهر مارس، وسألت عن الملك، فقيل لي إنه في مكةالمكرمة، ولن يكون في جدة قبل منتصف الشهر، ليس في جدة سوى فندق واحد يفتح أبوابه بعد أسبوع واحد على الأقل، ونصحني محدثي بالاتصال بنائب وزير الخارجية فؤاد حمزة، مؤكداً أن المعلومات التي أعطيت لي كانت خاطئة، وأنهم لم يقصدوا اليوم الأول من آذار (مارس)، بل اليوم الأول من محرم الذي يوافق الرابع عشر من آذار (مارس). قال نائب الوزير السعودي: إن جلالته سينتظرك يوم الأحد المقبل خارج مكةالمكرمة. وليس لدى جلالته الوقت الكافي للحضور إلى جدة، ولذلك سيحضر بالسيارة إلى مسجد الشميسي الصغير الواقع على مسافة عدة أميال من مكةالمكرمة لكي يقابلك. - وغمغمت ببعض عبارات الشكر - بينما استمر فؤاد حمزة قائلا: "أنت تدرك أن جلالته مشغول للغاية في الوقت الحالي باستقبال وتكريم العدد الكبير من الحجاج". تقرر أن يصحبني إلى المكان المعين للقاء خارج مكةالمكرمة الشيخ يوسف ياسين السكرتير الخاص للملك، الذي كان يقوم أيضاً بأعمال نائب وزير الخارجية في غياب فؤاد حمزة، كانت هناك تلال متعرجة على جانبي ذلك الطريق غير المعبد، ولم يكن فصل الصيف قد حرم هذه التلال بعد من الأعشاب والشجيرات التي تعطيها منظراً جميلاً. وعندما مررنا بسهل تنتشر فيه بعض الأكواخ قال الشيخ يوسف: "هذه بحرة ". وبين الحين والآخر كنا نمر ببعض البدو أو الحجاج المتجهين إلى مكةالمكرمة. وكان كثيرون منهم يتجهون إلى مكة سيرا على الأقدام، والبعض على ظهور الجمال، ولكن أغلبهم يستعمل السيارات. ولم تكن السيارات تسير إلا في موسم الحج. هناك سيارات أخرى تتجه إلى المدينةالمنورة الواقعة على مسافة مئتي ميل شمالاً، كما أن هناك طائرة يومية من جدة إلى المدينةالمنورة. كيس الذهب وفي إحدى مراحل الرحلة شاهدنا كيسا يسقط من سيارة مكتظة بالركاب. وتوقف السائق وهبط أحد الركاب لاستعادة هذا الكيس. وقال الشيخ يوسف ياسين معلقاً على ذلك:"حتى لو لم يلاحظوا سقوط الكيس فلن يسرقه أي شخص. إن أيا كان سيحمله مباشرة إلى الشرطة. وأضاف ياسين: قبل عدة أيام فقد حاج أجنبي غني كيساً كبيراً يحتوي على جنيهات ذهبية ولكنه أعيد إليه مرة ثانية في الصباح التالي". وتساءلت وأنا أعرف الإجابة مقدماً :"هذا يرجع إلى الملك على ما أعتقد"؟. فرد ياسين، نعم، الملك. ربما تعلم أن هذا الطريق كان غير آمن تماما في الماضي إلا إذا سافر المرء عليه في قافلة مع وجود حراسة عسكرية قوية. وحتى مع وجود هذه الحماية العسكرية كان الحجاج يتعرضون في بعض الأحيان للهجوم والقتل. وفي هذه الأيام تستطيع السير هنا وحدك طوال الليل وأنت آمن تماماً كما لو كنت في قلب لندن. عقوبة السرقة ولكي أعطي محدثي الفرصة للتحدث بالتفصيل عن إنجازات الملك، سألته :"كيف تمكن جلالته من تحقيق ذلك"؟ أجاب الشيخ ياسين وهو يتعمد التباطؤ في إخراج كلماته :"إن عقوبة السرقة الأولى هي قطع اليد اليمنى. وعقوبة السرقة الثانية هي قطع القدم اليسرى، وعقوبة السرقة الثالثة هي قطع اليد اليسرى وعقوبة السرقة الرابعة قطع القدم اليمنى". وكانت هناك رنة انتصار خفيفة في صوت محدثي وهو ينهي كلامه. ووجدت من الصعب على مخيلتي تصور نوع النشاط الذي يقوم به لص أطرافه كلها مقطوعة. ومع ذلك لم أستطع مقاومة توجيه السؤال التالي: "وماذا يحدث له إذا سرق مرة خامسة"؟ فقال "عقوبة الإعدام". وانتهى الحديث عن هذا الموضوع، وتغيرت المعالم حول الطريق بعد فترة وأصبحت جبلية إلى حد ما. وبعد مسافة 50 ميلا تقريبا اتسع الطريق بأكمله ووصلنا إلى واد فسيح فيه عدد من الأشجار وبئر للمياه ومسجد صغير على الناحية اليمنى. وكانت هذه هي الشميسي. وانحرفت السيارة إلى اليمين واتجهت ببطء إلى المسجد الذي نصبت بجانبه خيام كبيرة. وعلى مسافة قريبة كانت هناك خيام أخرى، وفي المواجهة كان هناك صف من السيارات وعربات الشحن. قال الشيخ ياسين مفسراً: "هذا هو المكان الذي سيستقبلك فيه جلالته". خيام وسيارات "ولكن ماذا بشأن كل هذه الخيام والسيارات والجنود والخدم"؟. وكان هناك عدد من الرجال يهرولون جيئة وذهاباً في المكان، وبعضهم يخرج أطقم الصيني من الصناديق ويحملون أدوات الطعام وينشرون البسط داخل الخيام. قال الشيخ ياسين ووجهه تبدو عليه السعادة لأن المخيم أثار دهشتي: "لقد جاؤوا كلهم هذا الصباح من مكةالمكرمة. وبالطبع لا تتوقع أن يستقبلك جلالته في أرض مكشوفة وهو جالس على قطعة من الحجر. وبما أن جلالته لا يستطيع أن يستضيفك في مكةالمكرمة فإنه يحاول أن يجعلك تستمتع بضيافته إلى أقصى حد ممكن هنا خارج مكةالمكرمة". وكانت مكةالمكرمة تختفي خلف التلال التي أقيم هذا المخيم الملكي بالقرب منها. كان الخدم يحملون صفائح المياه من البئر القريبة وينشرون هذه المياه على الأرض حول الخيام. وتوقفت سيارتنا واقترب منا عدد من الحراس المسلحين بالبنادق والمسدسات. وتوقف هؤلاء الحراس عندما ميزوا مرافقي. وتقدم رجل متقدم في السن لتحيتنا. استراحة ما قبل وصول الملك اصطحبني بعد ذلك إلى الخيمة الأصغر حجما من الخيمتين الرئيسيتين. وكانت الأرض مغطاة بالبسط، كما كانت هناك بعض المقاعد وقال لي: "ستنتظر وصول الملك في هذه الخيمة. أرجو أن تستريح". وكانت الخيمة المجاورة أكبر بكثير، كما كانت أرضها وجدرانها مغطاة بالبسط. وكان هناك مقعد كبير له مساند ويشبه العرش موضوع على مسافة قريبة من داخلها. وفجأة هب بعض الجنود واقفين وهم يشيرون إلى التلال، وقال الياور: "إن الملك يقترب من هنا"، وبعد عدة دقائق مرت أمامنا ببطء سيارة لونها أخضر قاتم. وكانت تتبع هذه السيارة عشرون سيارة أخرى تقريبا يجلس في الاثنتين أو الثلاث الأولى منها أعضاء الحكومة وأعضاء الأسرة المالكة. وكانت السيارات الأخرى تحمل حراس الملك ومرافقيه. وقفز هؤلاء إلى الخارج قبل أن تتوقف السيارات وأسرعوا إلى الخيمة الملكية مثل سرب من الفراشات. وكان بعضهم يرتدي ثياباً طويلة زرقاء وبنية اللون. بينما كان البعض الآخر يرتدي ثياباً حمراء قانية. وكانوا يحملون بنادق بعضها موشى بالعاج واللؤلؤ والفضة، ومن الواضح أن هذه البنادق كانت أثمن ما يمتلكه أصحابها. وخلال عدة ثوان شكل هؤلاء الرجال حلقة تنبض بالحياة حول الخيمة الملكية. وكانوا يتحركون دون ضجة بأقدامهم الحافية. ولم ينبس أي منهم بكلمة واحدة، ومع ذلك كانت وجوههم السمراء تنم عن التوتر الذي يصاحب الترقب. تشريف الملك بعد خمس دقائق تقريبا من وصول الركب الملكي جاء الشيخ يوسف ياسين الذي كان قد خرج لتحية الملك - قائلا: "إن جلالته مستعد لاستقبالك". وهكذا جاءت اللحظة التي كنت أنتظرها بلهفة على مدى أسابيع طويلة. وعند هذه اللحظة أحسست بشعور قوي يشير إلى أنني لم أكن أستحقها. إن كرم الملك في الحضور خصيصاً من مكةالمكرمة، والجمال غير المتوقع للمنظر بأكمله جعلني أشعر بعبء يثقل على ضميري. إن أصعب تشريف هو ذلك التشريف الذي لا يستحقه الإنسان. ابتسامة خلابة كان الملك جالساً على مقعده الذي يشبه العرش. وكان المخيم بأكمله ساكناً إلى درجة أنني كنت أسمع صوت تنفس الحراس المتناثرين أمام الخيمة وهم جالسون القرفصاء. نهض الملك من مقعده واقترب مني وصافحني وهو ينظر إليّ من أعلى بقامته المديدة. وكانت هناك ابتسامة خلابة تزيد وجهه جمالاً. وكان يبدو تحت سطح الخيمة المنخفض أطول من قامته التي بلغ طولها ستة أقدام وخمس بوصات. ومع ذلك كانت يداه صغيرتين ودقيقتين وهناك شيء ينم عن التواضع فيهما. وكان الملك يرتدي عباءته البدوية المعتادة ذات اللون البني وعلى رأسه كوفية قطنية تتخللها مربعات حمراء اللون. والملك كان حافي القدمين لأن خفيه كانا خارج الخيمة. وفي مؤخرة الخيمة كان هناك صف من الرجال يجلسون على مقاعد أوروبية ويرتدون جوارب وأحذية. وبرغم أن ملابس الملك كانت بسيطة فإنه كان يجسد كل معالم الملك. إن الصفات الملكية لم تكن منحصرة في هيئته وحدها، كما لم تكن قاصرة على أسلوبه الرقيق بصورة لم أكن أتوقعها. إن صفات الملك كانت حاضرة كعمود مشع داخل الخيمة ولم تكن تتطلب أي شرح أو تفسير. دعاني الملك أن أجلس على المقعد القريب منه. وإلى جواره كان مترجمه الرسمي جاهزاً بدفتر وقلم في يده. المعاملات السياسية وبعد أن نطقت بكلمات الشكر الأولى، رفع الملك يده في حركة خفيفة فيها إشارة أكثر منها أمر. ولدى هذه الإشارة بدأ الجنود المنتشرون خارج الخيمة ينصرفون بسرعة وصمت. واختفى هؤلاء الجنود خلال عدة ثوان بخفة بالغة دون أن ينهضوا على أقدامهم ودون أن يبعدوا نظرهم عن الملك. وجاء خادم بالقهوة وصبها في فناجين صغيرة. واستمرت المجاملات الاجتماعية بيننا لفترة من الوقت. وبدلاً من أن يتحدث الملك إلى المترجم كان يوجه الحديث إليّ مباشرة. وكانت هناك ابتسامة رقيقة تشع من وجهه. حوار الملك وسألته: "هل تجدون جلالتكم أن من الممكن الاستمرار بإجراء معاملاتكم السياسية على أساس معتنقاتكم الدينية"؟ فأجاب: "نعم. إنني لا أعتقد أن بإمكان المرء أن يحكم دولة من دون أساس ديني. لقد التزمت بذلك طيلة حياتي. وهذا ما أرجوه على الأقل وسوف أبذل جهدي للاستمرار في هذا الالتزام مستقبلاً". سألته ولكن أليست هناك حالات كثيرة لا يمكن فيها التوفيق بين الإسلام والسياسة التي تقتضيها الظروف المتغيرة في زمننا الحاضر؟. "في كثير من الأحيان توجد لدى الأجانب فكرة خاطئة عن الإسلام. إن الإسلام ربما كان أكثر الأديان عملية. إن الإسلام يسمح لك بأن تدخل مبتكرات مثل السيارات والراديو". وهنا رفع الملك صوته، وتكوّن لدي انطباع أنه لم يكن يتكلم إليّ وحدي بل أيضا إلى الذين كانوا يجلسون في مؤخرة الخيمة. ولم أستطع تبين شخصيات أولئك الجالسين، وربما كانوا من أبناء الملك أو الوزراء أو علماء الدين، ولكن كان من الواضح أنه يستثمر المناسبة للحديث إليهم بصورة غير مباشرة. واستطرد الملك قائلا: "إن الإسلام يعترف بكل شيء يؤدي إلى تحسين ظروف الحياة طالما أن هذه التحسينات لا تؤدي إلى القضاء على التعاليم الأساسية للرسول صلى الله عليه وسلم. إن الإسلام يؤيد مثل هذه المبتكرات، لأن الإسلام يعمل على تحسين حياتنا الجسدية والروحية في آن واحد". استخدم الملك هنا كلمة "دينية" وليس كلمة "روحية" ولكنني تعلمت بالتجربة المعنى المقصود. سألته: كيف تقومون جلالتكم بتحديث الحياة العربية على النمط الغربي دون إضعاف الروح الدينية في البلاد؟. فأجاب: إننا لا نقبل من الغرب أي شيء غير المنافع المادية لحضارته. لا تنس أن الشرق لا يؤمن بالنواحي الروحية في الحضارة الغربية. والشرق في الواقع لا يؤمن بأن هذه الحضارة تجسد أي قيم روحية على الإطلاق. وهكذا فإننا نكتفي بقبول تلك الأشياء الضرورية لتحسين حياتنا الخارجية. ويجب علينا بالطبع التزام الحرص من أجل حماية ثقافتنا كي لا تتأثر بالنفوذ الغربي. إن قبول السينما على سبيل المثال لا يعني قبول تلك الأفلام الضارة التي ينتجها الغرب. وسيتعين علينا الاقتصار على الأفلام التعليمية والأفلام التي تدعو حقيقة إلى القيم الأخلاقية. سألته: ما هي الوسائل التي تنوون استخدامها في الحفاظ على الروح الدينية للجيل الصاعد في المملكة العربية السعودية؟. فأجاب جلالة الملك: عن طريق التعليم. إن ثقافتنا ومعرفتنا تقومان على أساس الإسلام. وعندما نقدم المعرفة للناس فإننا نملؤهم أيضا بروح الدين. سألته: هل ينطبق ذلك أيضا على أبناء جلالتكم؟. فرد: بالطبع. وإلى جانب التعليم الصحيح يجب أن يتعلموا أيضا عن طريق المثل الصالح. لقد رأى أبنائي منذ بداية طفولتهم مدى أهمية الدين في حياة والدهم. ومن الطبيعي في هذه الحالة أن تصبح قوة الدين متأصلة في نفوسهم أيضا. سألته: هل تجدون أن الإسلام متمم للعمل السياسي، وأنه ليست هناك ضرورة للفصل بين الدين والسياسة وبين الأخلاق والسلوك السياسي؟. فرد: إن السياسة الصحيحة يجب أن تقوم على أساس الدين، وإلا فإن هذه السياسة ليست صائبة. ولا يمكنك الفصل بين السلوك السياسي والسلوك الأخلاقي. إنني لا أعتقد أن هناك ضرورة للفصل بينهما على الإطلاق، كما أنني لا أرى مطلقا كيف يمكن فصلهما. إن الإسلام قوة كبيرة للغاية في حياتنا وفي سياستنا. إساءة استخدام الإسلام سألته: وماذا بشأن التجارب التاريخية السابقة، ألم يكن هناك حكام مسلمون كثيرون يدعون أن مقاييسهم تقوم على أساس القرآن الكريم ولكنهم كانوا يتصرفون بصورة غير دينية وغير أخلاقية؟. فأجاب: يجب عليك ألا تنسى أن الإسلام أسيء استخدامه على مدى مئات السنوات، وأضيفت إليه بدع ليست لها علاقة به على الإطلاق, أو بعيدة عن التعاليم الأصلية للرسول محمد صلَى الله عليه وسلمَ. إن كثيرين من الحكام المسلمين أدخلوا تفسيرات تتفق مع أهدافهم السياسية وبذلك تؤدي إلى تبرير أفعالهم السيئة. وكل ما فعلته هو أنني عدت إلى التعاليم الأصلية كما وردت في القرآن الكريم وفي سنة الرسول صلَى الله عليه وسلمَ. إن القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة هما الأساس الذي نقيم عليه حياتنا في المملكة. إن العقيدة نفسها لا يمكن أن تكون لها قوة كبيرة - مهما بدت صائبة - إذا لم يمارسها الداعي إليها في حياته اليومية. والشيء الذي أحاول اتباعه في حياتي هو مثال حياة الرسول صلى الله عليه وسلمَ التي اتبع فيها تعاليم القرآن الكريم. سألته: هل تعتبرون جلالتكم أن مهمة المملكة العربية السعودية هي أن تكون جسراً بين روحية الشرق ومادية الغرب، وإذا كان الأمر كذلك فما هي الوسائل التي يمكن استخدامها في تحقيق هذه الغاية؟. أجاب: لدى الدول الإسلامية كلها مهمة من هذا القبيل. ويعتمد النجاح في تنفيذ هذه المهمة على مدى التعاون مع الغرب، لأننا لا نستطيع تنفيذها إلا بفتح أعيننا على حقيقة الإسلام وجعلكم تدركون المزيد بشأن أنفسنا وبلادنا. ومن ناحية أخرى يجب علينا أن نتعلم المزيد عنكم وعن أسلوب حياتكم. إن الأمر يعتمد على التفاهم المشترك. ولدينا في الوقت الحاضر الكثير من الأفكار الخاطئة عن الغرب، كما أن لديكم الكثير من الأفكار الخاطئة عنا وعن الإسلام، وبالمعرفة المتبادلة وحدها يمكن للعالم الإسلامي أن يقيم الجسر المطلوب للتعاون والتفاهم. ولم أكن أنوي أن أوجه إلى الملك أسئلة لها اتصال مباشر بالموضوعات السياسية، ولكنه كان يشبع فضولي بمزيج من السماحة والصبر. ولذلك وجدت في نفسي الشجاعة لكي أسأله عن القضية التي تشغل بال العالم الغربي وهو ينظر في مستقبل الشرق الأدنى، ألا وهي قضية العروبة والقومية العربية. العروبة وسألت جلالته عن موقفه من مسألة العروبة والقومية العربية. رد الملك قائلاً: إن العروبة أمر أساسي. وربما تكون الصورة المرغوبة للقومية العربية مشابهة لما هو سائد في الولاياتالمتحدة الأميركية. في داخل هذا الاتحاد الفيدرالي سوف تحتفظ كل دولة عربية بحاكمها الخاص وصورتها الخاصة في الحكم والإدارة. ومع ذلك يجب أن يكون هناك جهاز مركزي ينسق بين الجهود الفردية للدول المختلفة. وبهذا الطريق وحده تحصل هذه الدول على القوة التي تفتقدها. وليست هناك أهمية كبيرة للشكل الخارجي لهذا الاتحاد. كما أنه ليس المهم من سيكون رئيسه أو أين ستكون سلطته المركزية، في بغداد أو في فلسطين أو في أي مكان آخر، الشيء المهم أن العروبة يجب أن تصبح واقعا، إن الذين يعتبرونها مجرد خيال مخطئون وسوف تتحقق عاجلا أو آجلا إن شاء الله. ومرة أخرى توقف الملك عن الحديث ورفع يده، وهنا جاء خادم بالشاي في أكواب سميكة وصغيرة. واحتسى الملك الشاي خلال عدة ثوان وأشار إلى الخادم بالانصراف. وبعد ذلك استدار إليّ وطلب مني الاستمرار في الأسئلة. سألته: إذا واجهتكم مشكلة تتطلب الاختيار بين التزامكم بمبادئكم الدينية وبين القيام بعمل يمكن أن يؤدي إلى نجاح سياسي أو إلى تحقيق الازدهار لرعاياكم ولكنه لا يتفق مع عقيدتكم. فأجاب: لقد واجهت أكثر من مرة معضلات من هذا النوع. ومع ذلك حاولت أن أعمل دائما وفق تعاليم الرسول صلَى الله عليه وسلم، حتى لو كان ذلك يعني خسارة سياسية في ذلك الوقت. سألته: حتى إذا عانى شعبكم من مثل هذا العمل؟. فرد: نعم حتى في هذه الحالة. لقد وجدت أن الطريق الديني يؤدي على المدى الطويل إلى النجاح السياسي باستمرار. ولا تنس مرة أخرى أنني لا أقوم بأعمالي على أساس أقوال الرسول وحدها ولكن أيضا على أساس ما فعله في حياته أيضا. عادل وغير منحاز ومرة أخرى رفع الملك صوته وكأنه يخاطب الجالسين في مؤخرة الخيمة، واستطرد قائلا: "لا شك أن حياة الرسول صلَى الله عليه وسلم هي المصدر الأكبر لإلهامي. وإذا تصرفت وفقا لمثل هذا المثال فلا بد أن ينجح في النهاية. وإذا كنت أحاول أن أكون عادلا وغير منحاز كحاكم فإنني أفعل ذلك لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان عادلا وغير منحاز". وسألني وقد عادت إلى وجهه الابتسامة التي كانت تضيئه عند بداية الحديث: "إلى أين ستذهب من هنا"؟ وعندما أخبرته بالزعماء الآخرين الذين آمل مقابلتهم في الشرق ثم في أوروبا بعد ذلك قال لي: "إنني متأكد أنك ستجد في هؤلاء الرجال كلهم قناعات أخلاقية عميقة والتزاماً بدينهم مشابهاً للالتزام الذي يحكم أعمالنا في هذه الدولة". وأدهشتني هذه الكلمات التي نطق بها الملك إلى حد ما، وخصوصا لأنني ذكرت دولة تسود فيها نظريات معينة جديدة تحل محل الإيمان بالله. ومع ذلك كان الملك جاداً وكانت نبرة الاقتناع المتعاطف في صوته تشير إلى أن فلسفته الواضحة لا تسمح بوجود أي معتقدات سوى المعتقدات التي ذكرها للتو. ومن وجهة نظري ربما كانت سياسته تعكس التعقيد الذي يرتبط بالشرق، ولكن لم يكن هناك أي تعقيد في إيمانه بالله تعالى. لم يبد الملك أي بادرة تشير إلى رغبته في إنهاء الحديث برغم أن موعد صلاة المغرب كان يقترب. ولذلك استجمعت شجاعتي واتخذت الخطوه الأولى وقلت له إن فضولي لا بد أن يكون قد أثقل على صبره. ورد الملك بثناء لطيف على كلماتي، ولكنه نهض في الوقت نفسه واقفاً على قدميه ببطء. وقال الملك مشيراً إلى واحد من الشبان الذين كانوا يجلسون صامتين في الناحية الأخرى من الخيمة طوال مناقشتنا: "هذا هو ابني فيصل". وتقدم إلى الأمام الأمير فيصل نائب الملك في الحجاز، وكان رجلاً نحيفا في بداية الثلاثينات من عمره وملامحه دقيقة إلى حد ما. وعندما تصافحنا قال بالإنجليزية: "كيف حالك"، وقال الملك وهو يضع يده على كتف شاب آخر وسيم بصورة لافتة للأنظار كان يقف صامتاً بجانب الأمير فيصل "وهذا هو ابني الصغير منصور". قال الأمير منصور بالإنجليزية: "كيف حالك". وتحركنا جميعا باتجاه الأرض المكشوفة أمام الخيمة. مائدة العشاء وجاءني الشيخ يوسف ياسين قائلا: "إن الملك سيتناول عشاءه بعد وقت قصير من أداء الصلاة. وأعتقد أنك جائع أيضاً الآن إن الملك طلب إعداد بعض المرطبات لك"، وقادني الشيخ ياسين إلى خيمة أصغر في أحد الجوانب. وكانت هناك في وسط هذه الخيمة منضدة مغطاة بقماش أبيض وأدوات مائدة من الصيني والفضة وصحون كبيرة مليئة بفواكه جميلة مرتبة على شكل الزهور. وكان هناك ستة أو سبعة من الخدم يقفون حول هذه المائدة. ولا أدري حتى الآن أين تم إعداد هذا الطعام، لأنه لم يكن في مقدورهم إحضار كل شيء من مكةالمكرمة في أوان عازلة للحرارة، ومع ذلك كان العشاء يتألف من تسعة أصناف منها الحساء والسمك والدجاج والبط والهليون والباذنجان وحلوى مختلفة. وكان الطعام من النوع الذي يقدم في مناسبة كبيرة في مطعم أوروبي من الدرجة الأولى. العشاء على الأرض وقال الشيخ ياسين: "مازال لدى الملك بعض الارتباطات المهمة في مكةالمكرمة وسوف ينتهي من عشائه خلال أقل من عشر دقائق. ولولا أن وقته ضيق بهذه الصوره لكان تناول طعامه مع جنوده وحاشيته. إنه يتناول وجبة العشاء معهم في أغلب الأحيان، وهم يجلسون معا على الأرض حول الأرز ولحم الضأن ويأكلون بأيديهم بالأسلوب البدوي القديم". وبينما كنا نتناول الصنف الثاني من العشاء مرت سيارة الملك الخضراء خارج الخيمة بسرعة كبيرة. وبعد عدة دقائق جاء أحد الحراس إلى خيمتنا وهو يحمل لفة كبيرة وضعها على الأرض أمامي. ثم أضاف ضاحكا: "الآن يمكنك العودة إلى جدة كسعودي حقيقي". وفك الشيخ يوسف ياسين اللفة فسقطت منها جبة دشداشة تغطي الساقين وكوفية من صوف الكشمير وعليها العقال الملكي المطرز بخيوط الذهب والحرير الأبيض، وعباءة أيضاً بنية اللون، فخمة ومصنوعة من صوف الجمال وموشاة بالذهب والفضة. الختام وبعد العشاء ركبنا السيارة مرة أخرى متجهين إلى جدة في تلك الليلة قابلنا عددا كبيراً من القوافل في طريقها إلى مكةالمكرمة. وكانت هذه القوافل تتألف من جمال تسير في طابور طويل الواحد وراء الآخر، ويبلغ عددها في بعض الأحيان مئة، وهي تحمل مواد البناء وصناديق وشوالات وصلت عن طريق البحر إلى جدة، وكانت ستستخدم في التحسينات الكثيرة التي كان الملك يدخلها على مكةالمكرمة. ومرة أو مرتين اجتازتنا إحدى السيارات الملكية في طريقها مسرعة نحو جدة وهي تحمل رسولا خاصاً تم إرساله دون شك بعد عودة الملك إلى مكةالمكرمة. وهكذا بدأ النشاط في حياة هذا الحاكم الجديد مرة أخرى تحت ظل الكعبة المشرفة، وذلك بعد أن توقف فترة بعد الظهر أثناء حديثه معي.