أستطيع أن أقول إن الأدباء المهاجرين قد نجحوا في زرع مركب نقص مرضي في نفوس الأدباء المقيمين، واستطاعوا أيضًا أن يؤسسوا لفكرة وهمية في نفوسنا مفادها أن كل أديب مهاجر يتمتع بالحرية، وأن كل أديب مقيم مصاب بالخنوع راض بالعيش. أهي حالة مهاجرين وأنصار؟ نحن أنصار غير قادرين على استقبال المهاجرين لمقاسمتهم أرزاقنا وزوجاتنا كما فعل أجدادنا الأنصار.. بل إن العكس هو الصحيح، فكثيرون منا نحن الأنصار، صاروا ميالين إلى الهجرة لكي ينعموا بالحرية ويلعبوا بالقرش معتمدين على المساعدات التي يمكن أن يقدمها المهاجرون في بلدان الهجرة السعيدة. نحن أنصار وأنتم مهاجرون أحرار، مهاجرون لا تحبون العودة إلى هؤلاء الأنصار، وتكتفون بتلك الأشواق القليلة الغامضة التي تليق بمثقفين ينعمون بالحرية ويطلعون على آخر إنجازات التكنولوجيا، ويشاهدون خمس عشرة قناة تلفزيونية ويقرؤون صحافة جريئة ويزايدون علينا بآخر تقليعات البنيوية وبمشاركتهم في التظاهرات الإنسانية العميقة من أجل إنقاذ ثلاثة حيتان محاصرة في مكان ما لا نعرف نحن الأنصار اسمه.. تلك هي المسألة؟ نحن جبناء صامتون وأنتم أحرار شجعان تصدرون صحف المهجر المدافعة عن الحرية.. ثم تعرضون علينا هذه المنابر لكي نرفع أصواتنا من فوقها بملء حريتنا، وننشر فيها أدبنا المقموع الممنوع المصادر. تظنون أن عقولنا صغيرة بهذا المقدار؟ كيف يمكن لنا هذا كله ونحن لا نزال في العبارة؟ نحن نكرر الحکايات دون ملل. افترق أخوا الصفاء والكمال، نزل أحدهما إلى المدينة وصعد الثاني الى الجبل جلس الثاني يتعبد ويتأمل حتى صفت روحه واستطاع أخوه الهرب، فنزل من الجبل إلى المدينة، ولم ينس أن يعلق السلة في صدر المكان. وجلس الزاهد مكان أخيه. فجادل هذا وساوم ذاك وتشاجر مع الثالث فامتلأ صدره بالغضب والطمع والشهوة. باختصار، إن النقاء هو ما تصل إليه هنا في المعمعة وليس هناك في رأس الجبل. هل من الضروري أن نهاجر جميعًا لكي ننعم بالحرية؟ وهل النظافة مستحيلة إلا في حمامات أوروبا؟ يا سيدي لا.. ما الذي فعلتموه لأجلنا وأنتم في نعمة حرية الفجرة؟ من هم الأدباء الذين دافعتم عنهم؟ ما هو الحكم الذي ساعدتم على فضحه؟ ما هي القضية التي قدمتم لها الخدمات في المهجر ابتداء بالقضية الفلسطينية، مرورًا بالقضية اللبنانية، انتهاء بالجراد في السودان؟ أين هي المحافل التي صارعتم فيها الصهيونية أو العنصرية الغربية وأنتم هناك؟ علمونا اكتبوا بحرية لكي نعرف ما ينقصنا. 1989* * كاتب وشاعر ومترجم سوري «1941 - 2004»