قال عبدالله بن مصطفى الشنقيطي الباحث في معالم المدينةالمنورة التاريخية إن “ثنية الوداع” المشهورة تقع جنوبالمدينةالمنورة في حرة العصبة جنوب غرب قباء، خلافًا لما يقوله كثير من الباحثين من أنها تقع شمال المدينةالمنورة، مستشهدًا بروايات السيرة في الطريق التي سلكها النبي صلى الله عليه وسلم حتى وصل قباء قادمًا من مكة وفيها ثنايا متعددة ومرتفعات ومنخفضات بخلاف الثنية الشمالية فهي واحدة، ومستدلًا أيضًا برواية نشيد “طلع البدر علينا” التي تلقاها علماء الأمة بالقبول. وأكّد الشنقيطي أنه من محاسن الصُّدف أن يوم وصول النبي صلى الله عليه وسلم إلى قباء مهاجرًا من مكة إلى المدينة (الموافق للأول من برج الميزان، الثالث والعشرين من سبتمبر) وهو البداية الفعلية لانتشار دين الإسلام الذي أنزله الله تعالى منقذًا للبشر من ظلمات الشرك والكفر إلى نور التوحيد وعبادة الفرد الصمد، -يوافق اليوم الذي اختاره مؤسس المملكة العربية السعودية الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن -رحمه الله- ليكون يومًا وطنيًّا لدولة رايتها كلمة التوحيد، وهذا من توفيقاته وتسديداته التي لا شك أنها من الدلائل الكثيرة التي تدل على أن الله جلّ وعلا أراد به خيرًا فوفقه لخدمة دينه وحَرَمِه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء من عباده. “المدينة” التقت الشنقيطي الذي تحدث عن هذا الحدث التاريخي للهجرة النبوية فقال: في مثل هذه الأيام، وبالتحديد في الثالث والعشرين من سبتمبر (أيلول)، الأول من برج الميزان من عام 622 للميلاد وقبل ألف وثلاثمائة وثمانية وثمانين سنة ميلادية شمسية؛ أشرق في هذا الجزء من العالم نور أراد الله للبشرية أن تقتبس منه قبسًا يهدي به من يشاء من عباده. ففي ذلك اليوم صعد النبي صلى الله عليه وسلم آخر الثنايا للوصول إلى قباء منهيًا أعظم وأبرك رحلة قام بها أشرف الخلق من مكةالمكرمة إلى المدينةالمنورة. وقد روت لنا كتب السِّير والتاريخ مدى فرح الأنصار بمقدمه صلى الله عليه وسلم؛ فعندما وقف ذلك اليهودي على أطمه في حرة شوران (جنوب قباء) وصاح بأعلى صوته “يا بني قيلة! هذا جدّكم الذي تنتظرونه” فهبّ الأنصار رجالًا ونساءً وأطفالًا وولدانًا في استقباله وهو عند رأس تلك الثنية التي بنوا فيها مسجدًا فيما بعد تذكارًا وتذكيرًا بذلك اللقاء، ويسمى المسجد الآن مسجد مصبح. ومن عبارات الترحيب به صلى الله عليه وسلم ذلك النشيد المشهور الذي ذاع وشاع بين الناس خاصتهم وعامتهم: طلع البدر علينا من ثنيات الوداع وجب الشكر علينا ما دعا لله داع إسناد رواية “طلع البدر” ويوضح الباحث أنه بالرغم من شهرة هذا النشيد فإنه لم يُنقل إلينا اسم قائله ومتى قيل بالضبط، فالرواية التي نقلت لنا هذا النشيد هي رواية في سندها مقال عند أهل الحديث رغم أن الرواة المذكورين في السند كلهم ثقات. فقد روى البيهقي في “دلائل النبوة” وروى ذلك أيضًا غيره قال: أخبرنا أبو عمرو الأديب، أخبرنا أبو بكر الإسماعيلي، سمعت أبا خليفة يقول: سمعت ابن عائشة يقول: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة جعل النساء والصبيان يقُلنَ: طلع البدر علينا من ثنيات الوداع وجب الشكر علينا ما دعا لله داع” ثم قال البيهقي: “وهذا يذكره علماؤنا عند مقدَمِهِ المدينةَ من مكة، لأنّه لما قدم المدينة من ثنيات الوداع عند مقدَمِه من تبوك، والله أعلم “أ.ه. يقول الشنقيطي: ورغم أن بن عائشة -رحمه الله- لم يسند الحديث إلى صحابي معاصر لحادثة الهجرة إلا أنه عالم ثقة وشيخ للإمام أحمد بن حنبل رحمه الله ولا يروي إلا عن الثقات، وعادة المحدثين أن يتساهلوا في ذكر الإسناد عندما يكون الأمر لا يتعلق بالحلال والحرام. ودليل ثبوت هذا النشيد أن الأمة تلقته بالقبول، فقد ذكره كثير من الأئمة والمؤرخين ولم ينكروه، وإنما ناقشوا مكان “ثنيات الوداع “، ومن هؤلاء نذكر ابن القيم وابن حبان وابن عبدالبر وابن كثير وابن الجوزي والسمهودي والفيروز أبادي والصالحي الشامي وغيرهم كثير، وهذا يكفي لثبوته تاريخيًّا وهو -على كل حال- رواية تاريخية وليست حديثًا منسوبًا للنبي صلى الله عليه وسلم. مناسبة “طلع البدر” ويرى الأستاذ عبدالله أن هذا النشيد قيل بمناسبة قدومه صلى الله عليه وسلم إلى المدينة في هجرته قادمًا من مكة على الطريق الجنوبيّ للمدينة، وهو طريق على ظهر حرة العُصبة جنوب غرب قباء وتكثر فيه المرتفعات والمنخفضات (الثنايا)، ولا يلزم أن يكون قد قيل يوم قدومه وإنما أنشده أحد فتيان الأنصار أو إحدى ولائد الأنصار ثم شاع وذاع في مجتمع المدينة، وساعد في ذلك عذوبة ألفاظه وسهولتها وصدق عاطفتها وصلاحيتها لإعادة إنشادها في مناسبات مماثلة، وقد حصل هذا في غزوة بدر وتبوك عندما عاد النبي صلى الله عليه وسلم مظفّرًا من الغزوتين واستقبله الفتيان والولائد بهذا النشيد عند ثنية الوداع الشمالية المعروفة الآن. أمّا الأبيات المُلحقة بها فليست منها وإنما نُسجت على منوالها ثم أضيفت إليها ومنها هذان البيتان: أيها المبعوث فينا جئت بالأمر المطاع جئت شرفت المدينة مرحبًا يا خير داع أين هي ثنيات الوداع؟ ويؤكد الشنقيطي أن كثيرًا من العلماء والمؤرخين وأصحاب السير القدماء والمحدثين تكلموا عن “ثنيات الوداع”، وكان من أسباب توهين رواية النشيد “طلع البدر علينا” وأنه قيل بمناسبة قدومه في الهجرة؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم إلى المدينة من جنوبها وثنية الوداع المعروفة في شمالها. ولو تتبعوا الطريق الذي سلكه صلى الله عليه وسلم إلى قباء وتمعنوا في لفظ “ثنيات” جمع “ثنية” لانجلت لهم الأمور واتضحت لهم الرؤية ولكن لأسباب غير معروفة لم يفعل أحد منهم ذلك. أدلة التحديد ويستدلّ الشنقيطي على وقوع ثنية الوداع جنوبالمدينة بأمرين، يقول في الأول إن ثنيات جمع ثنية، وهذا لا ينطبق على ثنية الوداع الشمالية المعروفة فهي ثنية واحدة ولا يوجد غيرها، وبالتالي الجمع هنا لا محل له، أما الطريق الجنوبية إلى قباء على حرة العصبة فهناك عدة ثنايا تبعًا لمسار الطريق الذي ينزل إلى قيعان الحرة ثم يرتفع إلى ظهرها إلى أن يصعد الثنية الأخيرة التي تطلعه على منازل بني عمرو بن عوف في قباء. وفي الدليل الثاني يذكر الشنقيطي ما جاء في الطبقات الكبرى لابن سعد فيما يتعلق بالجزء الأخير من مسار الهجرة: “ ثم هبط بطن العقيق حتى انتهى إلى الجثجاثة فقال: من يدلنا على الطريق إلى بني عمرو بن عوف فلا يقرب المدينة، فسلك على طريق الظبي حتى خرج على العصبة، وكان المهاجرون قد استبطأوا الرسول (صلى الله عليه وسلم) في القدوم عليهم فكانوا يفِدُونَ مع الأنصار إلى ظهر حرة العصبة فيتحيّنون قدومه في أول النهار، فإذا أحرقتهم الشمس رجعوا إلى منازلهم، فلما كان اليوم الذي قدم فيه الرسول (صلى الله عليه وسلم) وهو يوم الاثنين لليلتين خلَتا من ربيع الأول ويُقال لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول جلسوا كما كانوا يجلسون، فلما أحرقتهم الشمس رجعوا إلى بيوتهم، فإذا رجل من اليهود يصيح على أطم بأعلى صوته: يا بني قيلة هذا صاحبكم قد جاء، فخرجوا فإذا الرسول (صلى الله عليه وسلم) وأصحابه، فسمعت الرجة في بني عمرو بن عوف والتكبير، وتلبس المسلمون السلاح...”. وهذا النص -يقول الشنقيطي- مهمّ جدًّا، فهو صريح في أن النبي (صلى الله عليه وسلم) سلك طريق الظبي، وطريق الظبي -لحسن الحظ- ما زال معروفًا باسمه ورسمه فهو جزء من طريقٍ على ظهر حرة بني سليم يبدأ من قباء وينتهي عند ذات عرق قرب مكةالمكرمة، ولكل جزء منه اسم معين؛ فطريق الظبي يبدأ من قباء حتى النقيع وهو طريق مختصر ولكنه ضيق ووعر ولا تأخذه إلا الرجالة وخِفاف الركاب. فلو تتبعنا سير الركب النبوي من الجثجاثة (وهي قرب أبيار الماشي) فنراه قد سلك على ظهر الحرة حتى هبط في القاع من طرف القرين الأحمر (جبل صريحة الموجود الآن في حديقة الملك فهد)، ثم صعد في حرة العصبة وهذا هو اسمها إلى الآن، وفي هذه الحرة مرتفعات ومنخفضات (ثنايا) حتى انتهى إلى رأس الثنية الأخيرة واستقبله عندها المهاجرون والأنصار وتلك هي ثنيّات الوداع لمن كان مسافرًا على طريق الظبي. إغفال المؤرخين للطريق ويعلّل الشنقيطي إغفال كثير من المؤرخين لهذه الطريق بندرة المسافرين على هذا الطريق وعدم ورود أي خبر عنها بعد حادثة الهجرة، وهو الأمر الذي أدى -في رأيه- إلى أن أصبحت مجهولة لدى المؤرخين وحتى لدى المختصين بالبلدانيات المعاصرين مثل الشيخ حمد الجاسر والشيخ عاتق البلادي وقبلهما الشيخ عبدالقدوس الأنصاري يرحمهم الله وغيرهم.