يقدم عبدالعزيز عمر أبو زيد في كتابه "المعماريون في جدة القديمة" الصادر حديثا ملامح وتفاصيل تاريخية مهمة أهملها كثير من التدوينات التي تحدثت عن "المنطقة التاريخية"،بتركيزها على فسيفساء الحالة التي مرت بها حكايات هذه المنطقة وشخوصها الذين صنعوا المراحل الزمنية السابقة، وخاصة اليد العاملة التي أسست للشكل الحضاري لبنيان (البيوت) القديمة في المنطقة التاريخية. بناء الكتاب المعرفي قام على "المصادر الحيوية" من المعماريين والمعلمين القدماء، مثل حسن محول وعيسى معتوق عبد العاطي، وإسماعيل عبد العاطي ومصطفى عبد الدايم، ومن النّوارة والنجّارة المعلم عبد الله محمود سمندرة وأحمد محمد مليباري وأحمد بخاري ومحمد محمد زاكر، وذلك عبر جلسات استماع شارك في ترتيبها إدارة حماية المنطقة التاريخية (بلدية جدة القديمة حديثاً)، وهو ما اعتبر ميزة للكتاب لجأ إليها لانتفاء المصادر المكتوبة التي توثق بدقة وتمحص مهنة البناء التقليدي، واستمرت عملية "المشافهة" مع المصادر قرابة ثلاث سنوات متواصلة ما بين 1417 و1420، مشكلة أهم ما ورد في صياغة الأفكار العامة بالكتاب. الكتاب يعتبر "موسوعة مصغرة تخصصية" عن جدة القديمة، لأبرز الحكايات والقصص التي صاحبت هذه المهنة إضافة للمقولات التي كان يرددها رواد المهنة القديمة وتقاليدها وأعرافها وطرق البناء المختلفة، وهو ما يعطي الكتاب صورة دلالية تقريباً عن ركن أساس لمن أراد أن يعرف تاريخ هذا الفن. التقسيمات الموضوعية للكتاب تساعد كثيراً على ترتيب أفكار القارئ،فخلفية المؤلف الصحافية ساعدته كثيراً في ذلك، حيث أفرد لكل فكرة قصة خاصة تجعل من القراءة "استمتاعا" بحد ذاتها. الصور الملحقة بالكتاب للمعماريين القدماء لعبت هي الأخرى دوراً مهماً شكلت عنصر جذب آخر له عن غيرها من الكتب التي تحدثت عن اريخ هذا التراث. يقرر الكاتب في بداية كتابه صورة واقعية عن البيوت القديمة أن الذكريات التي تركها المعلم البلدي في واجهات بيوت الحارات الأربع التي شكلت تاريخ هذه المنطقة (المظلوم، الشام، اليمن، البحر)وزواياها ورواشينها لن يلغيها الزمن ولن تشوهها الشيخوخة مهما امتد بها العمر وتراكمت عليها السنوات وتلاطم عليها الإهمال، فقيمة هذه الرسومات الفنية تتزايد عاماً بعد عام، وولادتها مع مرور الزمن تؤكد عراقتها وأصالتها وتعطيها أحقية الشهادة على الأزمان والأحقاب والحضارات التي مرت على المدينة حتى تحقق هذا الانسجام في التواصل عبر التاريخ. "القراري" هو أهم شخصية قريبة من المعلم، وهو من يقف خلف ستار نجاح المعلم البلدي في أداء مهنته، باعتباره دعامة أولى في البناء التقليدي، ويعد شخصية خفية تلعب دوراً غير ظاهر ودونه لا يستقيم حال المهنة، فإذا كان البناء قائماً على الحجر، فالقراري هو صانعها ويعمل لإعدادها وقصّها وتحديدها وتهذيبها بواسطة آلة "الشاحوطة" اليدوية وهي لعبة القراري التي تعتبر الوحدة الأساسية في بناء البيت القديم. أما أحجار البناء هي الحجر المنقبي (وهو حجر جيري مرجاني مستخرج من ساحل البحر قرب بحيرة الأربعين)، وله متعهدون خاصون يقومون باستخراجه ويبعونه بالمئة، وتكون رخوة في بداية وضعها وغير متساوية ثم تقص وتهذب، وكان استخدامها يعود بسبب ندرة استخدام الخشب. من القصص التي تعتبر مصدر تنظيم في أداء عمل البنائين والتي اتفق عليها الجميع عند أي بيت من البيوت الأول اسم صاحب البيت والثاني اسم المعلم البلدي الذي شيده، فتنسب له القدرة الإبداعية والتصميمية، وكانت سمعة المعلم مهمة في بناء البيت والخطأ الذي يحدث من المعلم في عمليات البناء يؤثر على سمعته وقد يسقطها تماماً ويخدش مكانته بين زملاء مهنته إذا كان الخطأ فادحاً ومعيباً، وهو ما يعرضه لمحكمة البنائين حيث يلجأ صاحب المنزل أو المشروع إلى شيخ المعلمين، الذي يحكم فيه فإذا ما كان الخطأ من المعلم البلدي، يجبره على إعادة البناء وإصلاح الخطأ.