حين تتحدث كتب مداخل إلى الفلسفة عن نظرية المعرفة، وفي جزء منها حين تتحدث عن مصادرها، تورد أن السلطة مصدر من مصادر المعرفة، وهناك معايير معينة للسلطة أشهرهما القدم (من القديم) والنفوذ، ويحظى هذان المعياران بأهمية قصوى في مجتمعنا السعودي، وتدعمها نصوص متنوعة كالأمثال والحكم، مثلا (أكبر منك بيوم أعرف منك بسنة)، و(الدهن في العتاقي) وغيرهما، تدعمها عبارات منتقاة من على أنها منتخبات من الأقوال. مثلا (الكبار لا يذهبون إلى المدرسة، ورغم ذلك يعرفون كل شيء عن الدنيا)، فهذه العبارة غير دقيقة؛ فهناك من الكبار من ذهبوا إلى المدرسة، لاسيما أن نسبة الأمية في مجتمعنا منخفضة جدًا، وهناك ممن لم يذهب إلى المدرسة ولا يعرف إلا أقل القليل عن المعرفة المعاصرة، ويمكن أن يفهم منها الطفل أن ينتظر حتى يكبر ليعرف، أو ليس من المهم أن يذهب إلى المدرسة، لأنه سيكبر وسيعرف، مثلما كبر آخرون لم يذهبوا إلى المدرسة، لكنهم يعرفون كل شيء عن الدنيا. من جهة أخرى؛ حين تكون السلطة مصدرًا من مصادر المعرفة فإنها تعتمد معيارًا آخر غير القدم والقدماء وهو (النفوذ)، وهو معيار قوي ومؤثر؛ لأن الكل تقريبًا يتأثر بالنفوذ والهيبة كما يقول هنتر ميد في كتابه «الفلسفة، أنواعها ومشكلاتها»، وهو يناقش نظرية المعرفة، ومذهب السلطة بوصفه مصدرًا من مصادر المعرفة، على أن خطر هذا المعيار يتركز بشكل خاص في تحويل (النفوذ) من ميدان إلى آخر. في سياقنا المحلي يمكن أن أمثل بالدكتور عبدالله الغذامي ونفوذه الذي صنعة، وبدأ يحوله من تخصصه إلى تخصصات أخرى، فهو أستاذ في النظرية والنقد، وسيكون نفوذه في هذا، لكنه يحول هذا النفوذ إلى مجالات أخرى، فيصدر كتبًا عن الفلسفة وعن العقل، ويجادل متخصصين في الفيزياء، وفي الدين، وكل ما يخطر على باله؛ لأنه يعرف أنه يمتلك النفوذ الذي اكتسبه من تخصصه في النظرية والنقد. لا أعرف ما إذا كنت محقًا بأن الذين ينتقلون من تخصصهم إلى تخصصات أخرى فإن معرفتهم في هذه (الأخرى) لن تكون أفضل من معرفة الرجل العادي، ويمكن أن أتوقف عند مقطع مثبت في حساب الغذامي في تويتر، وهو مقطع من حوار مع المديفر، أثناء الحوار سأله عبدالله المديفر عن كيفية التعامل مع التزييف الذي أصبح أكثر جاذبية من الحقيقة، فأجاب الغذامي «التشويه إذا بدأ لا تستطيع أن تلغيه»، سأل المديفر عن (التزييف)، وهو يشمل التشويه والتجميل، لكن الغذامي اختار التشويه، ومع ذلك لنقل ذكاء محاور يريد أن يوجه الحوار إلى جهة هو يريد أن يتجه نحوها، بعد هذه العبارة يصف الغذامي عن عبارته تلك بأنها «حقيقة تاريخية»، وبالرغم مما يجلبه الوصف (تاريخية) للحقيقة من اضطراب في مفهوم الحقيقة، إلا أنني سأسلم بذلك منتظرًا الدليل عليها، والدليل الذي يعرضه الغذامي على هذه الحقيقة التاريخية هو بيت من الشعر (قد قيل ما قيل إلخ)، وهنا أنا أعرف أن الغذامي يعرف أكثر مني بألف مرة ومرة أن النصوص ليست دليلا في المعرفة العلمية على أي حقيقة؛ تاريخية أو غيرها. علاوة على ذلك فالغذامي يعرف أكثر مني بما لا يحصى إمكان المعرفة، والشروط التي تصير بها الأحكام ممكنة، أن الاستشهاد بالنصوص علامات تكشف نظرية المعرفة المتعلقة بالعلوم الدينية، وليس المعرفة العلمية، فالمعرفة الدينية تتمحور حول النصوص وحفظها؛ أي استظهار المعرفة بشكلها الأصلي، والحقيقة ليست موجودة في الواقع إنما موجودة في النصوص، والمعرفة لا تتأتى بملاحظة الواقع وتصنيفه واكتشافه؛ إنما تتأتى بقراءة النصوص، والانشغال بمعرفة الواقع زمن ضائع بالنسبة للمعرفة بالنصوص، وخضوع الواقع للنصوص وهيبتها، والبرهان الأقوى هو الاستشهاد بالنصوص، ولم لأكن لأذكر هذا لو لم يكن الغذامي داعية شرسًا إلى المعرفة العلمية، والحوار العلمي، والتفكير العلمي. يضيف الدكتور عبدالله الغذامي في المقطع الصوتي المثبت في حسابه في تويتر أن الذي «يغير صورة في التاريخ هو ما تنتجه، وليس ما تدافع به»، وقد أربكتني النبرة الجازمة التي قال بها العبارة، أقول أربكتني عبارة الغذامي لأنني إذا كنت فهمته حقا، وقد تتلمذت على كتبه، وقرأت أغلبها، بل درستها بجدية، وحاولت استيعابها، أقول إذا فهمت الغذامي حقًا فهو ليس ماركسيًا، لكي يركز على الإنتاج للتغيير، وفي الوقت ذاته حتى لو كان ماركسيًا في المنهج وليس في العقيدة فإنه لن يستخدم هذه الماركسية الساذجة التي تربط ربطًا مباشرًا بين الاقتصاد وبين التغيير في كتابات الماركسيين المجددين كجورج لوكاش وأنطونيو غرامشي. ليعذرني أستاذنا الغذامي؛ فأنا أدقق في عباراته، وقد تعلمت منه ذات يوم أنه يدرس طلابه صباحًا، لكنه يتعلم منه مساء، وتعلمت من أرسطو حب الأستاذ، وفي الوقت ذاته أن أدقق فيما يقوله حتى لو كان أستاذًا بحجم أفلاطون، والهدف هو أن أوضح إلى أي مدى استخدم الغذامي نفوذه في تخصصه، وقد شاهدت وأنا أكتب هذا المقال أن عدد الذين أعادوا تغريدة المقطع المصور أكثر من خمسة آلاف، وأن عدد الذين أعجبوا به أكثر من ثمانية آلاف، وهو عدد مهول من الذين قبلوا سلطة الغذامي في غير تخصصه. هناك الكثير جدًا من هذه الحالات، فسفر الحوالي تحدث عن نظرية دارون في البيولوجيا، ونقدها نقدًا شديدًا، وهو «متخصص في العقيدة»، وتحدث عن العلوم الطبيعية، ونقد مناهجهًا الأمر كذلك ينطبق على محمد شحرور، وتفسيره الغريب للقرآن، وكذلك ما يفعله ابنه الآن لصلته بنفوذ أبيه، وما فعله قبلهما مالك بن نبي، وما فعله مرارًا وتكرارًا عدنان إبراهيم في حديثه عن الاتجاهات العلمية. يمكن أن نرى أثر تحويل النفوذ واضحًا في الإعجاز العلمي في القرآن، وفي علم النفس الإسلامي، بل إنني أرجح أن ما قيل وما يقال عن مشروع (أسلمة العلوم أو أسلمة المعرفة) ليس أكثر من نقل نفوذ رجال الدين من ميدانهم إلى ميادين أخرى، وهذه (الإعارة الفاسدة)، كما يصفها هنتر ميد تصبح أشد خطرًا من هؤلاء والمثقفين، ويمكن لباحث مدقق أن يلحظ أثر هذا في الإنتاج العلمي والثقافي العربي بشكل عام، والسعودي بشكل خاص، لاسيما في مجال الدراسات النقدية والنفسية والاجتماعية، فالإنتاج في هذه التخصصات المهمة في الغالب ليس أكثر من جمع ما قاله القدماء من ذوي النفوذ. من أراد أن يتأكد من أن السلطة أهم مصدر من مصادر المعرفة في مؤسساتنا العلمية والتعليمية، وأن أهم معيارين عند طلابها هما (القدم، والنفوذ) فما عليه إلا أن يقرأ بحوث الطلاب في مادة المكتبة والبحث، وفي بحوث التخرج من بعض الجامعات، وفي أطروحات الدراسات العليا، وأن النفوذ الذي تمتع به القدماء في تخصصاتهم، ينقله الباحثون بقضه وبقضيضه، من دون تأمل. يروي أنطون مقدسي في حوار له مع سعد الله نوس أنه سأل أحد أساتذة الفلسفة في فرنسا عن الطلاب فقال إنهم مجتهدون، وموثقون جيدون، بل إن قدرتهم على التوثيق أفضل بكثير من الأجيال السابقة، لكن ويا للأسف تنقصهم اللمعة، والقدرة على التركيب، والفكرة ذاتها عبر عنها عبدالله العروي قائلا: (إن مسألة المنهج ليست مسألة شكلية، مسألة مراجع وإحالات ونقاش آراء بكيفية منتظمة.. إلخ، بل هي قبل كل هذا مسألة قطيعة مع مضمون التراث). متى يكتسب الباحث العربي اللمعة والتركيب في إجابة الأستاذ الفرنسي؟ متى ينظر الباحث العربي إلى المنهج على أنه قطيعة مع مضمون التراث كما يؤكد العروي؟ إحدى الإجابات التي اقترحها (أنا) هي ألا يرتهن الباحث إلى السلطة بوصفها مصدرًا للمعرفة، ولا إلى القدم والنفوذ بوصفهما معيارين. أطال الله عمر الدكتور عبدالله الغذامي، ومتعه بالصحة والعافية والسعادة.