يصدر عن الفرد منا في حياته أحكام وقرارات كثيرة، بعضها كبير قد يحدد مسار حياة الشخص ومصيره، وبعضها عادي مثل قرار قراءتك لهذا المقال. يعتقد الجميع أن قراراته وأحكامه موضوعية لا تحكمها العاطفة ولا يشوبها أدنى تحيز، ولكن الحقيقة غير ذلك فالعاطفة مؤثرة على جزء كبير من قراراتنا إذا لم تكن مؤثرة على كل قرارتنا، وقد التفت إلى هذه الحقيقة كثير من الحكماء في الماضي، أما في الحاضر - ومع تقدم العلم - فقد أثبتت كثير من الدراسات صحة هذا الرأي المتمثل في قول الشاعر: وَعَينُ الرِضا عَن كُلِّ عَيبٍ كَليلَةٌ، وَلَكِنَّ عَينَ السُخطِ تُبدي المَساوِيا منها دراسة حديثة أُجرِيت في 2004، بواسطة فريق من علماء النفس في جامعة إيموري بقيادة عالم النفس درو ويستن، قامت هذه الدراسة باختبار مجموعة تابعة للحزب الجمهوري ومجموعة أخرى تابعة للحزب الديمقراطي أثناء التنافس في الانتخابات الرئاسية، وعرضوا عليهم تصريحات تتضمن تناقضات واضحة للمرشحين وقاموا بتصويرهم بجهاز تصوير الدماغ الوظيفي أثناء عرض التصريحات وكانت المفاجأة ملاحظتهم أن المواقع الإدراكية في الدماغ تشتغل مع تصريحات المنافس، فيجد الشخص الخاضع للاختبار التناقضات في تصريحات المنافس واضحة، أما عند عرض تصريحات المرشح الذي يؤيده الشخص الخاضع للاختبار فتنشط مواقع العاطفة في الدماغ، وبالتالي تنشط (عين الرضا) كما وصفها الشاعر، فيتجاهل الخاضع للاختبار التناقضات في تصريحات المرشح الذي يؤيده. وقد قال ابن خلدون في كتاب التاريخ الجزء الأول «فإنّ النّفس إذا كانت على حال الاعتدال في قبول الخبر أعطته حقّه من التّمحيص والنّظر حتّى تتبيّن صدقه من كذبه وإذا خامرها تشيّع لرأي أو نحلة قبلت ما يوافقها من الأخبار لأوّل وهلة وكان ذلك الميل والتّشيّع غطاء على عين بصيرتها عن الانتقاد والتّمحيص فتقع في قبول الكذب ونقله». رغم هذا لو سألت أيا من الخاضعين لتلك التجربة، هل كان تقييمه موضوعيًا لتصريحات المتنافسين؟ لأكد لك بأن تقييمه لم يكن متحيزًا، وفعلًا أن هذا هو شعوره؛ لذلك يقع الناس في توهم الموضوعية، بينما هم متحيزون وعاطفيون، وكلما تعمق الإنسان في دراسته لهذه القضية كلما عرف أن الموضوعية نادرة جدًا في تفكيرنا. آلاف الدراسات توالت في الفترة الأخيرة ورصدت التحيز بشكل واضح نتيجة للمؤثرات الكبيرة مثل التحيز الأيدولوجي، والسياسي، والعرقي، حتى أن الدراسات امتدت لتبحث في مؤثرات بسيطة، مثل الأحكام القضائية في اليوم التالي لخسارة الفريق المحلي لكرة القدم أو تأثير الطقس في الأحكام، وكانت النتائج صادمة وغريبة، إذ رصدت بعض الدراسات تأثيرًا واضحًا للمؤثرات المذكورة أعلاه مثل دراسة هيس (Heyes) وسبرين (Saberian) في عام 2019 التي درست أكثر من مئتا ألف قرار من قرارات قبول الهجرة، وأثبتت وجود علاقة واضحة بين حاله الطقس في الخارج وقرارات القضاة في قبول أو رفض المتقدمين لطلب الهجرة. وكذلك دراسة في عام 2014 شملت أكثر من مئتي عيادة، حول صرف الأطباء لوصفات المضادات الحيوية، ووجدت الدراسة أن الأطباء في آخر الدوام يميلون لصرف المضادات الحيوية أكثر من ميولهم لصرفها في بداية الدوام. ومن غرائب هذا الموضوع أحد الدراسات التي شملت حوالي سبعمائة جامعة، ووجدت ارتفاع نسبة قبول المتقدمين الأكثر تأهيلًا أكاديميًا في الأيام الغائمة أكثر بحوالي 12 % منه في الأيام المشمسة، بعد أن عرفنا مشكلة التحيز وتوهم الموضوعية يبقى السؤال كيف يمكن معالجة هذه المشكلة؟ وكيف يمكن أن ننظر للأمور بنظرة موضوعية لا ذاتية عاطفية؟ في البدء يجب التفهم أن المشكلة ليست بسيطة وأن الحل لن يكون هينًا، ثم الاعتقاد الجازم بأن تفكيرنا يحتاج إلى تمحيص مستمر، وأيضا يجب فهم القضية أولا وبشكل كامل قبل التسرع في الأحكام، ثمة قاعدة أصولية تقول (الحكم على الشيء فرع عن تصوره)، كذلك الثقة بالنفس تجعل الإنسان قادرًا على التفكير بموضوعية بدون خوف من الشعور بالنقص، فالشخص الذي يبني علاقة قوية مع نفسه يستطيع الاعتراف بالخطأ، كما تجب محاولة تقمص الطرف الآخر والنظر إلى الموقف من زاويته بإنصاف، ثم الاعتراف والإقرار بالحق حتى إذا خالف هوى النفس، فالله سبحانه وتعالى يقول: (كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين).